صاحبة المقولة
هند بنت المُهلَّب بن أبي صُفرَة، والدها كان قائداً مغواراً معروف بشهامته وشجاعته. وهِند عُرِف عنها جمالها وذكاؤها، إذ يقال أنّها أدهى النساء في زمانها، واشتُهِرت هند أيضاً بالفِطنة ورَجاحة العقل واللّسان الفصيح، والرَّدِّ السريع البليغ، والحِكمة.
وتنتمي هند إلى عائلة عربية معروفة بالحَسَب والنَّسب بين العَرب. وقد أعجِب بها والي العراق” الحجاج بن يوسف الثقفي”، فتزوّجها ولمْ تكُن موافقة على زواجها منه، ولم تَكُن تُحبّهُ أيضاً؛ وبعد سنةٍ من الزوَاج طلّقها الحجّاج؛ بسبب أبيات شِعرٍ قالتها فيه، فغضِبَ وطلّقها.
قصّة المقولة
طلبَ” الحجّاج بن يوسف الثَّقفي” من الخليفة الأمويّ” عبدالملك بن مروان”، أنْ يكتُبَ كِتاباً إلى” المُهلّب بن أبي صُفرَة”، كي يُزوّجهُ” بهند بنت المهلّب”، ولَمْ تكُن هِند راضيةً تماماً على الزواج بالحجّاج. لكنّها لم تكُن تستطيع هي ووالدها المُهلّب على رفْضِ كتاب الخليفة” عبدالملك بن مروان”، فطلَبت من الحجّاج أنْ يُمزِّق الكتاب؛ ثمّ قَبِلت بالزّواج منه.
وبعد أنْ مضى على الزَّواج بينهما سَنة، كانت هِند تقفُ أمام مِرآتها، وتُردِّد أبياتاً من الشِّعرِ، تَمدحُ فيها جَمَالها وحُسنَها، ومدى كٌرهِهَا للحجَّاج، وقد سَمِعها الحجّاج وهي واقفةٌ أمامَ المِرآة، وهيَ تُردّدُ أبيات الشِّعرِ الشهيرة التي قالت فيها:
وما هِندٌ إلّا مُهرةٌ عربيةٌ****سَليلة أفرَاسٍ تَحلَّلهَا بَغلُ. فإنْ أتَاها مُهر فَلِلّهِ دَرّهُ****وإنْ أتَاها بغلٌ فَمِن ذلك البَغلُ.
فلمّا سَمِعها الحجّاج غضب غضباً شديداً، ونادى” إبن القِريَّة” وكانَ فصيحاً وبليغاً ومن خُطباء العرب. وقال له” اذهب إلى هند وبلِّغهَا أنّي طَلّقتُها بكلمتين فقط، وأعطاه مُؤخر مَهرِها لِيُسلمها إيّاه.
وذهَب إليها” ابن القِريَّة”، فقال لها: إنَّ الحجّاج بن يوسف الثقفي أرسَلنِي إليكِ لِكي أُطلّقَكِ؛ فقال لها:” كُنتِ.. فَبِنتِ”، وقد قَصدَ بذلك؛أنّها كانت مُتزوجة وعلى ذِمّة الحجّاج، وقد حُلَّ هذا الزواج وبَان، وأصبحت طالق.
وقد عُرِفَ عنها فصاحتها وفِطنتها؛ فَردَّت عليه بقولها:” كُنَّا فَما فَرِحنا .. فَبِنَّا فَما حَزِنّا”؛ ثمَّ قالت” لابنِ القِريّة”: خٌذْ مُؤخَّر مَهري كاملاً، فهو مكافأة على هذه البُشرى.
وبعد ذلك بَقِيَت هند مدة طويلة بدون زواج، فَلَمْ يَتجَرأ أحد على أنْ يتَقدَّم لِخطبتِها، فهي طَليقة الحجّاج بن يوسف الثّقفي، وكان معروفاً ببطشهِ وظُلمهِ.
كان من دَهاءِ هند أنّها قدَّمت جوائز مالية كبيرة للشّعراء كَي يَمتَدحُوها في بلاط الخليفة” عبد الملك بن مروان”.
فكان يأتي العديد من شعراء ذاك الزمان إلى دمشق عاصمة الخلافة الأموية؛ ويقوموا بمدح جَمالِ وذكاءِ هند بنت المُهلّب أمام الخليفة عبدالملك بن مروان، حتى أعجِبَ بها عبدالملك، وأرادَ أنْ يُشاهِدها ويتَعرَّف عليها عن قُرب.
يكتب” عبدالملك بن مروان” كتاباً إلى المُهلّب يَخطِبُ فيه ابنتهُ هند؛ فتردُّ هند على طلبه برسالة تقول فيها:” بعد الثَّناء على الله، والصلاة على نبيه محمد_ صلى الله عليه وسلم_، اعلم يا أمير المؤمنين أنَّ الكلب وَلغَ في الإنَاء”.
كان” عبدالملك بن مروان” صاحب دَهَاء؛ فَفَهِمَ ما تقصِدُ هند بكلامها، وردَّ عليها بكتابٍ آخر يقول فيه:” قال رسول الله_ صلى الله عليه وسلم_؛ إذا وَلغَ الكلب في إنَاءِ أحدكم، فَليَغسلهُ سبعاً إحدَاهنَّ بالتُّراب”.
فَردّت عليه هند برسالةٍ تقول فيها:” بعد الثَّناء على الله والصلاة على نبيه محمد_ صلى الله عليه وسلم_، فإنّي لا أُجْرِي العَقد إلّا بشرط، فإنْ قُلت ما الشَّرط؟ أقول: أنْ يَقود الحجّاج مَحملي إلى بلدكَ التي أنت فيها، ويكون حَافي القَدمين بِلباسهِ الذي كان يَلبسهُ قبل أنْ يصبح والياً”.
فَنفَّذَ عبدالملك بن مروان الشَّرط الذي طَلبتهُ هند، وأرسلَ إلى الحجّاج يَأمره أنْ يقوم بما طَلبَتْ هند، ولمْ يَستطع الحجّاج أنْ يَرفضَ طلب الخليفة.
وتَجهّزت هند بنت المُهلب للسفرِ إلى دمشق، وقاد الحجّاج بن يوسف قافلتَها، وفي الطريق أمَاطت وأزاحَت هند السِّتَار لترى الحجّاج يقودُ قافلتَها، وصارت تضحكُ كَيداً لهُ. فقال لكَي يُغيضهَا هذا البيت من الشِّعر:
فإنْ تَضحَكِي يا هِند فَرُبَّ ليلةٍ*** تَركتُكِ فيها تَسهرينَ نُواحا
فَردَّت عليه هند:
وما نُبَالِي إذا أرواحنَا سَلِمت** مِمَّا فَقدناهُ من مالٍ ومن نَسبِ المالُ مُكتَسبٌ والعِزُّ مُرتَجع**إذا شُفِيَ المَرء من دَاء ومن عَطَبِ
ومن ثَمَّ قامت بإلقاء دينارٍ على الأرض، وقالت للحجَّاج: وقعً منِّي دِرهمٌ، فأعطِيني إيّاه، فرد عليها الحجّاج: إنّه دينار وليس درهم، فنظَرت إليه بنَظرةِ الكَيدِ والتَّشفّي، وقالت له: الحمد لله الذي أبدَلنِي الدِّرهمَ ديناراً.
وصَلَت القافلة التي تحمل العروس” هند بنت المُهلّب” لقصرِ الخليفة” عبدالملك بن مروان”، وكان الخليفة قد أعدَّ وصنعَ وليمة للرِّجال، فَتعمَّد الحجَّاج بن يوسف الثقفي أنْ يَتأخَّر عنها، وَلمْ يدخل بلاط الخليفة.
وعندما لم يُشاهدهُ الخليفة بين الناس، سأل عنه وأرسلَ في طلبهِ ليشاركهُ بالوليمة، فردّ الحجاج عليهِ بقولهِ: رَبَّتنِي أمي على أنْ لا آكُل فضلات الرجال، وهي إشارة لعبدالملك بن مروان الذي سَيتزوّج من هند بنت المُهلّب، التي كانت زوجتهُ، ولم يكُن راضياً عن هذا الزواج ولكنه لا يستطيع أنْ يفعل شيئاً.
فَهِم عبدالملك مُرادَ الحجَّاج من هذا الكلام، فَلم يَقترب من هِند لِعدَّةِ أيام، وكان يَكتفي بزيارتها يوماً واحداً في الأسبوع.
وبدأت هند تقلق من فِعلِ الحجّاج وسألت في القصر عن السببِ في ذلك؛ فَأُخبِرت ما كان بين الخليفة عبدالملك وبين الحجَّاج.
وكان من دَهاءها أنّها فكّرت ودبّرت حلاً لهذا، فأرسلت في طلب الخليفة” عبدالملك بن مروان” من أجل أنْ تراه، وجعلت جارية تُخبرها عندما يَقترِب من غُرفتها. وما إنْ اقترَبَ عبدالملك بن مروان من غُرفتها حتى قطَعَت عِقداً من اللُّؤلؤ كانت تَرتديه، ورفعت ثوبها كي تَجمع حبات اللّؤلؤ فيه.
وعندما رَفعَت الثَّوب تَبيَّنَ لعبدالملك مَفاتنَها وحُسنها وجَمالهَا، وجلست على الأرض تَلمُّ حبّات اللؤلؤ وهي تقول: سبحان الله؛ فقال لها عبدالملك: لِمَ تُسبِّحين، فقالت: إنَّ هذا اللُّؤلؤ خلقهُ الله لِزينةِ الملوك، فقال: نعم، فقالت: ولكنْ شَاءَت حِكمتهُ ألَّا يَثقُبهُ إلّا الغَجَر( وكانت تعني بذلك الحجّاج)، فقال لها: صَدقتِ والله، قَبَّحَ الله من لامَني فيكِ، ودَخلَ بها.