اقرأ في هذا المقال
من الطبيعي أنْ يظل للرثاء منزلته السامية في النفوس؛ نظراً لانبثاقه من عاطفة الحزن الواري في كل زمان ومكان، غير أن فن الرثاء ارتقى في هذا العصر واكتسب غنى وعمقاً، بفضل شعراء كبار أبدعوا فيه وفي سائر أغراض الشعر. وفي طيلة شعراء الرثاء أبو تمام الذي قيل عنه “مداحة نواحة”. ومن بعده ابن الرومي الذي عرف برثاء أولاده.
كذلك افتن الشعراء في هذا الغرض تبعاً لتشابك العلاقات الاجتماعيّة في ذلك العصر، كما توطّد صلاتهم مع أولي الأمر، إذ لم يمت خليفة ولا وزير ولا قائد ولا عظيم، إلّا وأرثوه رثاءً حاراً وأبنوه تأنيباً رائعاً، مبرزين في قصائدهم كل ما كان يتحلّى به الفقيد في حياته من مناقب وما كان له من فضل.
وكم ألمَّت بهذا العصر العباسي المديد أحداث جائحة وفتن طاغية وجدت لها في النفوس صدىً أليماً. وتجلت على ألسنة الشعراء مراثي دامعة وحدث أنْ اجتاح الزنج البصرة في فتنةٍ هوجاء حين زحفوا إليها من ظاهر المدينة، فاستباحوها وأعملوا فيها يد التخريب والتنكيل.
وراع هذا النبأ الفاجع ابن الرومي فقال في رثاء المدينة المنكوبة قصيدة تُعدّ من أروع الشعر. وكان مطلعها:
ذاد عن مقتلي لذيذ المنام شغلها عنه بالدموع السجام
ولم يكن هذا النمط من رثاء المدن معهوداً في الشعر العربي، لكن أحوال ذلك العصر المتفجر اقتضت مواكبة الشعر لها. ولعلَّ هذه القصيدة باكورة رثاء الممالك الذي أخذ في الظهور فيما بعد، لا سيما إثر سقوط بغداد بيد التتار القُساة، إثر تساقط دويلات المسلمين في الأندلس بيد الفرنجة.
وقد تستدعي حقيقة الموت من الشاعر أن يتأمل في طبيعة الحياة وحال الدنيا، فيكون له من ذلك نظرات وآراء، لا سيما بعد أن تشبع بأفكار ثقافات أغنت معارفهم وعقولهم. ومن هذا القبيل كثير من شعر أبي العتاهيّة في الوجود والعدم، الحياة والموت، البقاء والفناء.
ولأبي العلاء المعرّي فلسفة أعمق في هذا الصدد تبعاً لغنى فكرة ونفاذ بصيرته، حيث عمد إلى رثاء صديقه الأثير أبي حمزة الفقيه في قصيدته المشهورة والتي كان مطلعها:
غَيْرَ مَجْدٍ في مِلَّتي واعْتِقادي نَوحِ باكٍ ولا تَرَنُمِ شادِ
فقد استطاع أبو العلاء المعرّي أن يلحق في أجواء علوية سامية. وينظر من خلالها إلى الكون والحياة نظرة كليّة شاملة؛ وبذلك ارتفع في رثائه من نطاق الحداثة الفردية المحدودة إلى رحاب الإنسانيّة.