تعددت مصادر الإبداع عند شعراء الأندلس بشكل واضح والشاعر الأندلسي يتحرر من قيود المشرق ويبحر في سماء الإبداع منتجًا فنًا أندلسيًا خالصًا يحاكي به مجريات الحياة الأندلسية، ومن أساليب الإبداع التي تفرد وتميز بها شعراء الأندلس السخرية والتندر في الشعر بأسلوب فني ساخر، وفي هذا المقال سنوضح هذه الأساليب الحديثة.
السخرية والتندر في الشعر الأندلسي
شكلت السخرية مصدر إبداع الشاعر الأندلسي، حيث تمكن الشعراء من توظيفها بأسلوب ساخر نابض بالحياة، واستطاعت السخرية أن تكشف تمكن الشاعر من التلاعب ليس فقط بالشكل الخارجي الذي اتخذ وسيلة للضحك والتهكم، وإنما هيجت الأحاسيس وأيقظت الانفعالات بأسلوب بارع وتصوير دقيق مما يجعل من الذي يسخرون منه وسيلة تسلية ومتعة من جهة، والثأر من الشخص المقصود من جهة أخرى.
وتكون السخرية بتجريد الشخص المقصود من السمات الإيجابية، ولم تقتصر السخرية والتهكم عند العيوب الشكلية للإنسان، وإنما طالت السخرية والتندر المدن وكذلك الزمن، وبذلك كانت السخرية والتندر لشعراء مصدر للإبداع وملهم لهم حيث مدتهم بألوان من الصور والأشكال، وكذلك كشفت عن نوايا نفسية وكذلك فنية محققة الهدف منها.
ويعتبر أسلوب السخرية جانب من جوانب الهجاء، وشعر الهجاء من الأشعار المشرقية التي تطرّق إليها الشعراء بشكل عام، وشعراء الأندلس بشكل خاص، والسخرية ممزوجة مع الفكاهة، وكذلك السخرية ممزوجة مع الهجاء.
ويمتاز الهجاء بأن فيه اللطف واللين، وتعرف السخرية بأنها استهزاء بلهجة شديدة قوية، وبالنسبة للتندر هو بيان للعيوب بصورة ملتوية مع تجاهل صفات الشخص المقصود بالتندر وكشف عيوبه ونوادره، كما أنه يظهر في السخرية تشفيًا من الشخص ومحاولة للإذلال والخضوع من جهة، وإراحة الشخص الساخر من جهة أخرى، فهي تنبثق عن انفعال وتعبير وتنفيس عن غضب الشاعر في صورة تعبر عن غضبه وانفعاله تظهر بشكل واضح للمتلقي، كما أنها تكشف عن فكاهة الساخر الذي يستمد قوته من البديهة ورغبته القوية بالهجاء.
جوانب السخرية والتهكم والهجاء في الشعر الأندلسي
1- الجانب السياسي: ولقد استمد الشعراء السخرية فيه من الظروف السياسية التي انتشرت في الأندلس، ولقد ألحقت هذه الظروف الظلم والاضطهاد على أهل الأندلس، ومن هذا المنطلق توجه شعراء الأندلس إلى نقد الفقهاء ورجال الدين الذين يدعمون السلطة ويعززون سلطتهم من خلال نفوذهم الديني.
ومن أبرز الشعراء الذين هَجوا رجال الدين والقضاة الشاعر أبو بكر بن محمد الأبيض، وكان يصف القضاة بأنهم مثل الذئاب التي تهجم على فريستها في ظلام الليل، ويقول في ذلك:
أهل الرياء لبستم ناموسكم
كالذئب يذبح في الظلام العاتم
حملتم الدنيا بمذهب مالك
وقسمتم الأموال بأبن القاسم
وكذلك يقوم أبو بكر محمد بن سهل اليكي بسخرية وتهكم لاذع من أحد القضاة، وتدل هذه السخرية على سوء خُلق القاضي وفساده ويقول في سخريته منه:
أعد الوضوء اذا نطقت به
مستعجلا من قبل أن تنسى
وأحفظ ثيابك أن مررت به
فالظل منه ينجس الشمسا
وفي أسلوب أقوى في أبيات أخرى يسخر من قاضٍ آخر حيث يقول:
ثماني خصال في الفقيه وعرسه
وثنتان والتحقيق في الامر شيق
ويكذب أحيانًا ويحلف حانثًا
ويكفر تقليدًا ويرشى ويحمق
وعائرة والذنب فيها لأمه
وإذا ذكرت لم يبق للشتم منطق
وهذا الشاعر المشهور لسان الدين بن الخطيب ينظم أبياته ساخرًا من قاضٍ يسمى لوشة، حيث يقول:
بلوشي قاض له زوجة
وأحكامها في الورى ماضية
فيا ليته لم يكن قاضيا
ويا ليتها كانت القاضية
والأمر المستغرب والمضحك أن زوجة القاضي ترد على لسان الدين بن الخطيب تزدري فيه زوجها وتسخر منه حيث تقول:
هو شيخ سوء مزدرى
له شيوب عاصية
كلا لئن لم ينته
لنسفعاً بالناصية
وأبرز من هجا في بلاد الأندلس الشاعر يحيى بن الحكم الغزال، ويُعرف عن صدق شعره حيث تتضمن الأحداث، وتجربته مع الناس، ومن أبرز الأشخاص الذين هجاهم هو قاضي الجماعة بمدينة قرطبة واسمه يخامر بن عثمان الجداحي، حيث أنه ذمه ووصفه بالجهل والبله، فنجده يهجوه بأسلوب فكاهي حيث يقول:
لقد سمعت عجيبا
من أبدان يخامر
قرا عليه غلام
طه وسورة غافر
فقال: من قال هذا
هذا العمري شاعر
أردت صفع قفاه
فخفت صولة جائر
2- الجانب الاجتماعي: وكانت تنظم بأسلوب بسيط واضح يسهل فهمها من قبل المتلقي، وكانت تؤثر في النفوس بشكل واضح، وكانت تعتمد على تضخيم الأشياء، وإظهار التناقض وكل ذلك هدفه إثارة الضحك.
ونجد أن قصائد وأشعار المدح والحماسة لم تجد القبول مثلما تجده قصائد السخرية والهجاء، فقصائد السخرية تعلق في النفس وفي العقول لأن طبع الإنسان مولع بما يسيء للشخص ويظهر عيوبه، فكانت هذه المقطوعات تمتاز بقوة الملاحظة ودقتها، وكذلك تنم عن عبقرية الحس اللفظي وكذلك بساطة التعبير، وبعده عن التكلف.
وكانت تجري هذه المقطوعات مجرى الأمثال والحكم وتنتشر بسرعة كبيرة، ومن أبرز الصفات التي تناولها شعر السخرية والهجاء هي صفة البخل، حيث كان حرمان الشعراء من العطايا والهدايا وراء غضبهم على من منعهم من هذه العطايا، وهذا ما تناوله الغزال في أبياته ويقول:
قصدت بمدحي جاهدا نحو خالد
اؤمل من جدواه فوق منامي
فلم يعطني من ماله غير درهم
تكلفه بعد انقطاع رجائي
كما اقتلع الجمام ضرسا صحيحة
إذا استخرجت من شدة ببكاء
كما تناول بشعره طعام البخلاء وسخر منه حيث أنه قليل لا يفطر صائم، حيث يقول:
طعام من لست له واكرا
دق كما دق بان يذكرا
لا يفطر الصائم من اكله
لكنه صوم لمن افطروا
كما أن سمة البخل تظهر واضحة على أجسام البخلاء حيث تكون أجسامهم نحيلة تعاني من الهزل والضعف، فلا يقتصر بخلهم على الآخرين إنما يشمل أنفسهم، ويظهر ذلك على أجسادهم واضحًا، ومثال على ذلك ما نظمه ابن عبد ربه يصف شدة بخلهم حيث يقول:
لم يبق من جثمانه
الا حشاشة مبتئس
قد رقَّ حتى ما يرى
بل ذاب حتى ما يحس
وهذا الشاعر الغزال ينتقد المجتمع ويوجه رسالته إلى الذين انحرفوا عن الصواب، ويتحدث عن سمة الرياء حيث يقول:
إذا اخبرت عن رجل بريء
من الآفات ظاهرة صحيح
فسألهم عنه هل هو آدمي
فأن قالوا نعم فالقول ربح
ومن أنعام خاقنا أهل استتار
وعند الله أجمعنا جريح
فلو فاحت لا صبحنا هروبا
فرادى بالغلا ما نستريح
ومن العادات الاجتماعية القديمة الحديثة التي نظم بها الشعراء أبياتهم الشعرية هي عادة زواج الفتاة صغيرة السن بالرجل الكبير ولقد تناول هذه العادة الشاعر الغزال بأسلوب ساخر حيث يقول:
وخيرها أبوها بين شيخ
كثير المال أو حدث فقير
فقالت خطتا خسف وما أن
أرى من خطوة للمستخير
ولكن أن عزمت فكل شيء
أحب الي من وجه الكبير
لأن المرء بعد الفقر يثرى
وهذا لا يعود الى صغير
كما لجأ الشاعر إلى السخرية من ذاتهم وهجائها بهدف الظرافة واليأس من الحياة، ومثال على ذلك علي بن حزمون حينما قام بهجاء نفسه حيث يقول:
تأملت في المرآة وجهي فخلته
كوجه عجوز قد أشارت الى اللهو
اذا شئت أن تهجو تأمل خليقتي
فأن بها ما قد أردت من الهجو
كأن على الأزرار مني عورة
ينادي الورى غضوا ولا تنظروا نحوي
فلو كنت مما تنبت الأرض لم أكن
من الرائق الباهي ولا الطيب الحلو
وفي النهاية نستنتج أن ينابيع الإبداع تعددت عند شعراء الأندلس ومن هذه الينابيع التي تميز بها الشعراء السخرية والتندر بأسلوب فني ساخر، متناولين الجانب السياسي والاجتماعي في المجتمع الأندلسي.