الصورة الفنية في شعر ابن خفاجة

اقرأ في هذا المقال


يُعتبر ابن خفاجة من أبرز رواد الكلام الموزون المشرقي بشكل عام والأندلس خاصة، حيث مرَّ بالعديد من المجريات والأحداث ويعد ابن البيئة بلا منافس، وتميز في جميع أشكال الأدب وخصوصًا المتعلق بالطبيعة التي أسرته بجمالها فأخذ يعبر عنها بصورٍ رائعة بليغة، وفي هذا المقال سنتناول جوانب الصور الفنية في مقطوعاته وخصوصًا تلك المرتبطة في البيئة بجميع أشكالها.

الصور الشعرية في العصر الأندلسي

المتمعن في أدب تلك الفترة يرى بوضوح الصور الشعرية التي تعج بأشكال البيان من استعارات وكنايات وغيرها، وقال أحد الباحثين عنه: ” إن الصورة الشعرية التي شدت انتباه الشعراء الأندلسيين واستولت على ألبابهم هي التي أخذوها من تغزلهم بالمرأة أو من وصفهم للخمر أو من الإنسان بصفاته الجسمية أو النفسية. “

كان رواد الأدب الأندلسي يستمدون صورهم من البيئة المحيطة بهم ومن صفات الممدوح ومن مخزونه الفكري أو من الحياة الجديدة التي ترعرع وتأقلم معها، نذكر مثال على هذه الصور ما تم ذكره في مقطوعات ابن زيدون وما تحمله من توضيح للأحاسيس الإنسانية عند الغربة والبعد عن البلاد ويقول:

هَلْ تذكُرونَ غريبًا عادَهُ شَجَنُ

مِنْ ذِكْرِكُمْ وجفَا أجْفانَه الوَسَنُ؟

يُخْفي لواعِجَهُ والشَّوقُ يَفْضَحُهُ

فقدْ تساوَى لدَيْه السِّرُّ والعَلَنُ

يا وَيلَتاهُ، أيبْقَى في جوانِحِه

فؤاده وهو بالأطلال مرتهن

الصور الفنية في شعر ابن خفاجة

تتمثل الصور في مقطوعات ابن خفاجة بالعديد من الأشكال والمظاهر ونذكر منها:

1- وصف البيئة في أدبه: تميز ابن خفاجة بالوصف والتمكن منه وخصوصًا البحار والورود والباستين وغيره من المظاهر وكان يسمى في تلك الفترة بأبي الجنان لشدة تعلقه وحبه للبيئة.

تأثر الأديب في البيئة كثيرًا وشُغف بها وامتزجت روحه بروحها وعاملها كأنها شخص يبادلها المشاعر ويتحدث إليها وكأنها شخص يتحرك وينطق، ولقد عُرف عنه إسهابِه في مقطوعاته من استعمال ألوان البديع والمحسنات حتى جعله ذلك متكلفًا بشكل واضح.

كان ابن خفاجة متفاعلًا مع البيئة بشكل كبير ويتأثر بها ويقاسِمها أحزانه ومشاعره واستعان بصورها ومفرداتها في جميع مواضيعه الأدبية وأصبحت جزءًا مهمًا منه، ومثال على هذه الصور وصفه للحدائق حيث يقول:

وَصَقيلَةِ الأَنوارِ تَلوي عِطفَها

ريحٌ تَلُفُّ فُروعُها مِعطارُ

عاطي بِها الصَهباءَ أَحوى أَحوَرٌ

سَحّابُ أَذيالِ السُرى سَحّارُ

وَالنورُ عِقدٌ وَالغُصونُ سَوالِفٌ

وَالجِذعُ زَندٌ وَالخَليجُ سِوارُ

بِحَديقَةٍ ظَلَّ اللِمى ظِلّاً بِها

وَتَطَلَّعَت شَنَباً بِها الأَنوارُ

في الأبيات السابقة يظهر لنا عدة أسباب أدت إلى ازدهار وانتشار الأدب المتعلق في البيئة ومن أهمها وفرة مظاهر الجمال فيها كالورود، وكذلك تعلق ولاة الأمر بالبيئة وحياة الترف واللهو كل ذلك سحر أفئدة الأدباء وأسر عقولهم بألوانها وأشكالها.

والمُتمعن في مقطوعات ابن خفاجة يدرك أنه دمج حالته النفسية بالأشكال البيئية مثال عليه تعلقه بوصف الرياض وذكرها، ويكون الغرض من ذلك شيء آخر مثل وصف الأنثى وينوب عنها بذكر البيئة أو أشكالها حيث يقول في ذلك:

يا بانَةً تَهتَزُّ فَينانَةً

وَرَوضَةً تَنفَحُ مِعطارا

لِلَّهِ أَعطافُكِ مِن خَوطَةٍ

وَحَبَّذا نَورُكِ نُوّارا

عَلِقتُ طَرفاً فاتِناً فاتِراً

مِنكِ وَغِرّاً مِنكِ غَرّارا

نلحظ في مقطوعاته الاتصال بين المظاهر الموصوفة وذات الأديب وعواطفه، ونرى بينهما تمازج كبير يوضح رؤيته لهذا الكون ويبرز تعاطفه مع أي شيء يصفه ومن ذلك قوله:

أَصَختُ إِلَيهِ وَهوَ أَخرَسُ صامِتٌ 

فَحَدَّثَني لَيلُ السُرى بِالعَجائِبِ

وَقالَ أَلا كَم كُنتُ مَلجَأَ فاتك

لٍ وَمَوطِنَ أَوّاهٍ تَبَتَّلَ تائِبِ

وَكَم مَرَّ بي مِن مُدلِجٍ وَمُؤَوِّبٍ

 وَقالَ بِظِلّي مِن مَطِيٍّ وَراكِبِ

ومثال على ذلك قوله أيضًا واصفًا القمر:

لَقَد أَصَختُ إِلى نَجواكَ مِن قَمَرٍ

وَبِتُّ أُدلِجُ بَينَ الوَعيِ وَالنَظَرِ

لا أَجتَلي مُلَحاً حَتّى أَعي مُلَحاً

عَدلاً مِنَ الحُكمِ بَينَ السَمعِ وَالبَصَرِ

وَقَد مَلَأتُ سَوادَ العَينِ مِن وَضَحٍ

فَقَرَّطِ السَمعَ قِرطَ الأُنسِ مِن سَمَرِ

ولم يتوقف الشاعر عن تصوير البيئة الصامتة إنما توجه لوصف الحية منها مثل الحيوانات والطيور فتوثَّقت العلاقة والرابط بينهما وأحاط به الفرح والدلال وراح يتغنى بجمالها وبهائها ويقول فيها:

وَكِمامَةٍ حَدَرَ الصَباحُ قِناعَها

عَن صَفحَةٍ تَندى مِنَ الأَزهارِ

في أَبطَحٍ رَضِعَت ثُغورُ أَقاحِهِ

أَخلافَ كُلِّ غَمامَةٍ مِدرارِ

2- الروضيات: يشاهد الشاعر بلاده وكأنها جنة الفردوس لا يمكنه التَّخلي أو الاستغناء عنها ويوجه حديثه إلى شعب الأندلس ويطلب منهم عدم الخوف من جهنم لأنهم لن يدخولها بعد عيشهم بالفردوس وذلك من خلال قوله:

يَأَهلَ أَندَلُسٍ لِلَّهِ دَرُّكُمُ

ماءٌ وَظِلٌّ وَأَنهارٌ وَأَشجارُ

ما جَنَّةُ الخُلدِ إِلّا في دِيارِكُمُ

وَلَو تَخَيَّرتُ هَذا كُنتُ أَختارُ

لاتَختَشوا بَعدَ ذا أَن تَدخُلوا سَقراً

فَلَيسَ تُدخَلُ بَعدَ الجَنَّةِ النارُ

ويتحدث الخفاجي عن مدى فرحه عندما يتمتع بالرياض وحسنها ويقول في ذلك:

وأربع على حكم الربيع بارجع

هزج الندامى مفصح الأطيار

نثرت بحجر الروض فيه يد الصبا

ذرر الندى ودراهم الأنوار

لكن عندما لا تسمح له الفرص بالتمتع بجمال تلك الرياض فإن الحزن يسيطر على نفسه ويتجه إلى وصف جريان جداوله وأنهاره تبكي وشدو طيورها كأنه نواح ويقول في ذلك:

وَمُرتَبَعٍ حَطَطتُ الرَحلَ مِنه

بِحَيثُ الظِلُّ وَالماءُ القَراحُ

يُحَرِّمُ حُسنَ مَنظَرِهِ مَليكٌ

يُحَرِّمُ مُلكَهُ القَدَرُ المُتاحُ

3- الزهريات: وهي زينة الرياض تلتفت إليها العيون وتحدّق بها مع تباشير الربيع وعنها يقول:

تاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكًا 

مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَلَّما

 وَقَد نَبَّهَ النَوروزُ في غَلَسِ الدُجى

أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُوَّما

من الصور التي استخدم فيها الزهر تلك التي وصف فيها الجداول المنعطفة وتحفُّها الأزهار من كل صوب مثل النجوم حول الكوكب ويقول:

مُتَعَطِّفٌ مِثلَ السِوارِ كَأَنَّهُ

وَالزَهرُ يَكنُفُهُ مَجَرُّ سَماءِ

قَد رَقَّ حَتّى ظُنَّ قُرصاً مُفرَغاً

مِن فَضَّةٍ في بُردَةٍ خَضراءِ

وَغَدَت تَحُفُّ بِهِ الغُصونُ كَأَنَّها

هُدبٌ يَحُفُّ بِمُقلَةٍ زَرقاءِ

كما استخدمها في تصوير لمجلس يأنس به مع صحبه حيث يقول:

وَالنورُ مُبتَسِمٌ وَخَدُّ

الوَردِ مَحطوطُ النِقابِ

يَندى بِأَخلاقِ الصِحابِ

هُناكَ لابِنَدى السَحابِ

وَكِلاهُما نَثرٌ كَما

نَثَروا القَوافي بِالخِطابِ

ومن أروع ما نظم في وصف الأزهار تلك التي قالها في ريحانة عشقها وسلبت عقله حيث يقول:

وَمَعشوقَةِ الحُسنِ مَمشوقَةٍ

يَهيمُ بِها الطَرفُ وَالمَعطِسُ

لَها نُضرَةٌ سِمتُها نَظرَةً

وَتَكلَفُ بِالأَنفُسِ الأَنفُسُ

فَمِن ماءِ جَفني لَها مَكرَعٌ

فَسيحٌ وَمِن راحَتي مَغرِسُ

4- الثلجيات: لم يرد ذكر الثلج كثيرًا في الأدب القديم ولم يفرد له الأدباء فصولًا مستقلة، وقيل أن أول من تناول هذه الظاهرة وصورها في مقطوعاتِه هو ابن خفاجة ويقول في ذلك:

مُستَقبِلينَ شَمالَ الشَأمِ تَضرِبُنا

بِحاصِبٍ كَنَديفِ القُطنِ مَنثورِ

عَلى عَمائِمِنا يُلقى وَأَرحُلِنا

عَلى زَواحِفَ نُزجيها مَحاسيرِ

إِنّي وَإِيّاكِ إِن بَلَّغنَ أَرحُلَنا

كَمَن بَواديهِ بَعدَ المَحلِ مَمطورِ

وفي النهاية نستنتج إن ابن خفاجة من أهم رواد الأدب الوصَّافين، ومن المهتمين بموضوع الصور الفنية حيث اتجه لتصوير البيئة وكل ما تتضمنه من مظاهر، حيث ساعده في ذلك اتقانه الكبير للغة وتفرد باستعمال الصور البديعية والمحسنات مثل الطباق والسجع وغيره.


شارك المقالة: