الغربة والاغتراب في الشعر العربي القديم

اقرأ في هذا المقال


يعد الاغتراب عادة قديمة ظهرت في المجتمعات نتيجة الأزمات والصراعات التي كانت تظهر فيها، وكان الإنسان يتعايش مع هذه الأزمات على حسب قدرته وطاقته، فكانت تقوده في أغلب الأحيان إلى العصيان ورفض الواقع، وآحيانًا تقوده إلى الانعزال والاستسلام، فالاغتراب كان ملازمًا للإنسان في كل الأزمان وتأثر به الإنسان بشكل عام، والشعر بشكل خاص، وفي هذا المقال سنتناول الاغتراب في الشعر المشرقي قديمًا بالشرح والتوضيح.

مفهوم الغربة والاغتراب

الاغتراب لغة: مأخوذ من غرب، والغرب هو التنحي والذهاب، وقد غرب عنا، يغرب، غرباء، غرب، ويمكن توضيح مفهوم الاغتراب لغة من خلال قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الغرباء فقال: “هم الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي.”

وكذلك الاغتراب في اللغة يعني ابتعاد الشخص عن الوطن والأمان في الأوطان وإتيان الغريب إليه، ومن الملاحظ أن المشترك بين جميع الدلالات اللغوية لمفهوم الاغتراب هو أنه يحمل معنيين مادي يقصد به ابتعاد الجسد عن الوطن المكان، أيضًا معنوي ويقصد به تفرد الذات بإبداعها.

أما الاغتراب اصطلاحًا هو حالة تسيطر على الشخص فَيعيش حياته في قلق نفسي يؤرقه بسبب بعده عمن يحب، وحرمانه من المواقف والفرص التي تجعله قادر على العطاء والمشاركة وإثبات نفسه من خلالها.

والاغتراب اصطلاحاً أيضاً الانقسام الذي يحدث بين الإنسان والبيئة نتيجة لأسباب خاصة تعقدت بمرور الزمن، وعدم قدرة الإنسان على التحكم والسيطرة في البيئة وعمل تغييرات على محيطه مما دفعه إلى الإحساس

الفرق بين الغربة والاغتراب

إن الحديث عن اختلاف الاغتراب والغربة أمر معقد للغاية؛ لأنهما مداخلات في المعنى ومتشابهات في اللفظ، وقد يكون واحد فيهم سبب في حدوث الآخر ومع ذلك يوجد بينهما فروق دقيقة تفهم بتذوق النص.

1- الغربة: إن شعراء الغربة يرون البيئة بعين مختلفة عن شعراء الاغتراب، فنرى أن الجمال البيئي المحسوس للكون لا يهتم به شعراء الغربة كثيراً، وجمال البيئة والكون ليس غايتهم، إنما هو ملجأ للهاربين وتسلية للمبدعين.

فَالغربة تتولد نتيجة لِمشاعر وطنية والحنين يظهر عندما يترك الشاعر بلده ويبتعد عنه، والرجوع إلى الوطن هي ملاذ عند شعراء الغربة المادية، والغربة في العموم هي وِثاق وجدَاني لِشعراء كَونت شعرها بالبكاء والحسرة وأصبح إحساسهم تصديراً لِحياتهم البائسة. 

2- الاغتراب: هو ظاهرة قديمة جداً عرفها الإنسان منذ بدء الوجود، كان شعراء الاغتراب ينظرون إلى الطبيعة بأنها الملاذ والمأوى لهم، وهي رمز للسلام الذي يعيشه الإنسان مع نفسه، ويرون في الطبيعة هي الملهم الأول، ومنشطة لخيالهم، تتعلق بها أرواحهم وتقوى هذه العلاقة كلما زاد حب الطبيعة لديهم.

الاغتراب في الشعر الجاهلي

إن الكلام عن الاغتراب في الشعر المشرقي يوضح أن الاغتراب عادة يستشعرها الشاعر على مر الأزمان ويعبر عن هذا الشعور بأصدق المعاني والصور، وفي الشعر الجاهلي يبين لنا مدى قسوة القبائل على أبنائها ويبين لنا غموض الواقع كذلك، وطبيعة حياة البدو القاسية وما يترتب عليه من تنقل دائم، كل ذلك يدفع بالإنسان إلى الشعور بالاغتراب وخصوصاًَ الشاعر الذي يتمتع بمشاعر مرهفة.

وكان الشعراء آنذاك يقومون على إشراك ناقتهم معهم في هذا الشوق والتذمر من الغربة كما حلَّ بِامرؤ القيس، عندما ترك دياره متوجهاً إلى بلاد الروم وسيطرت عليه مشاعر الشوق إلى الديار والأهل وكان يتقطع قلبه شوقاً لهم حيث يقول: 

سمالك شوقٌ بعدما كان أقصر

وحلّت سُليمى بطن فوّ فعَرعَرا 

كناينةٌ بانت وفي الصدر ودُّها 

مجاورة غسّان والحيَّ يعمرا

تذكرتُ أهلي الصالحين وقد أتت 

على خملى خوصُ الركاب وأجرا

وفي أبيات أخرى له يتحدث عن الحوار الذي دار بينه وبين صاحبه عمرو بن قميئة وبكائه عندما ابتعد عن دياره ودخل إلى أرض غريبة حيث يقول:

بكى صاحبي لمّا رأى الدَّرب دُونه

وأيقن أنا لاحِقن بقيصرا 

فقلت له: لا تبكِ عينك إنما

نحاول ملكاً أو نموت فنُغذرا

وإني زعيمٌ إن رجعتُ مُملكاً 

يسير ترى منه الفُرانق أزورا

على لاحب لا يهتدي بمناره

إذا سافهُ العود النُّباطيُّ جرجرا

على كل مقصوص الذُّنابي معاود

بريد السُّرى باليل من خليل بربرا

أقبُّ كسرحان الغضا متمطرٍ

ترى الماء من أعطافه قد تحدَّرا

والشعراء عندما يتركون ديارهم وأهلهم يشعرون بأنهم غرباء لا يستطيعون التعايش في الديار الجديدة والتأقلم مع الناس من حولهم، فيشعرون أنهم أذلاء مهانون حتى وإن لم يذلهم ويهينهم أحد، ونرى أن عنترة بن شداد قد ذاق الأمرين عندما ابتعد عن دياره وعندما ابتعد عن محبوبته عبلة، ونراه غريب يتحسر على أيام الصبا بعدما تعب من البعد وأهلكه الشيب حيث يقول:

أحرقتني نار الجوى والبعاد 

بعد فقد الأوطان والأولاد 

شاب رأسي فصار أبيض لوثاً

بعدما كان حالٍكاً بالسواد

وكان الناس قديماً كثيراً ما يبتعدون عن ديارهم سعيًا للرزق والغنى، ولكن كل ما يجنيه من ذلك لا يساوي عندهم لحظة يقال إنه غريب، فَالغربة عندهم هي ذل ومهانة، وعن ذلك قال الشاعر:

وإن اغتراب المرء من غير خلّة

ولا همةٍ يسمو لها لعجيبُ 

وحسب الفتى ذلاً وإن أدراك الغنى

ونال الثرى أن يقال غريبُ

أما بخصوص شعراء الصعاليك قديماً فهم أكثر الشعراء اغتراباً وبعداً عن ديارهم نتيجة الفقر والنبذ آنذاك، وكثيراً منهم من طرد نتيجة جناياته وخروجهم على النظام القبلي، وكثيراً منهم من عاش الغربة وهو داخل قبيلته وقبل بالعبودية خوفاً منه على أهله من الذل والهوان إذا خرج من قبيلته.

ولقد كانت حياة الصعاليك صعبة مليئة بالخوف والفزع ووحشة الاغتراب، وكانوا يتنقلون البلاد وأيديهم على سيوفهم خوفاً من الغدر والغارة، محرومين من الألفة والأمن، وكانوا يحاولون تعويض وحشتهم بألف الحيوان وقد تحدث عن ذلك الشاعر بن أيوب العنبري مصوراً غربته وتعويض وحوش البر له عن الأهل والديار حيث يقول:

ذقني طعم الأمن أو سل حقيقةً 

عليَّ فإن قامت ففصل بناينا

ترامى به البيدُ القفار تراميا

خلعت فُؤادي فَاستطير فأصبحت 

لنانسبٌ ترعاه أصبح دانا

كأني وآجال الظباء بقفرةٍ

ويخفى مراراً ضامر الجسم عاريا

رأيت ضئيل الشخص يظهرُ مرةٌ

قليل الأذى أمسى لكن مصافيا

فأجفلن نفراً ثمّ قُلن ابنُ بلدةٍ 

ونرى فلسفة الصعاليك واضحة في أشعارهم حيث يفضلون العيش في الصحاري يعترضون القوافل وينهبون، أفضل من الجلوس في الديار والمعاناة من الفقر، وعن ذلك يتحدث أبو النشناش:

وسائله اين ارتجالي وسائل

ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه

مذاهبه إن الفجاج عريضة

إذا ظن عنه بالنوال أقاربه

إذا المرءُ لم يبعث سواماً ولم يُرح

عليه ولم تعطف عليه أقاربه

فللموت خيرٌ للفتى من حياته

فقيراً ومن مولى تدبُّ عقاربه

ودويه فقر يحار بها القطا

سرت بابي النشناش فيها ركائبه

وحياة الصعاليك حياة صعبة كلها غربة وتشرد وخوف ومتوقع الموت في كل لحظة وفي كل مكان، فهم رغم جرأتهم يظلّون خائفين حذرين، وهم وحوش مذعورة يترقبون الشر في كل مكان وفي ذلك يقول عبيد بن أيوب:

لقد خفت حتى لو تم حمامه 

لقلت غدو أو طليعة معشر

وخفت خليلي ذا الصفاء ورابيني

وقيل فلان أو فلانه فاحذر 

فأصبحت كالوحش يتبع ما خلا

ويترك مانوس البلاد المتعثر

إذا قيل خير قلت هذي خديعة

وإن قيل شر قلت: حق فشمر

وفي النهاية نستنتج أن الاغتراب يعد ظاهرة قديمة ظهرت في المجتمعات بسبب الأزمات والصراعات، وتأثر الشعراء بالاغتراب بشكل كبير وقفوا على الأطلال وبكاء الديار والأهل والأحباب.  


شارك المقالة: