اقرأ في هذا المقال
اكتسب الغزل في العصر العباسي غنى ومضاء؛ نظرلً لارتباطه بعاطفة الحب والغلابة في النفس الإنسانيّة، حيث أقبل الشعراء إقبالاً كبيراً على النظم فيه، فكثُر كُثرة بالغة وازدهر ازداهراً واسعاً.
غير أنَّ الاتجاهين اللذين غلبا في العصر الأُموي وهما: الغزل العفيف والغزل الصريح، حيث لم يسيرا في العصر العباسي على ذلك النحو المتوازن، فقد أخذ الغزل العفيف في التضاؤل، في عصر تكاثرت فيه النحل والآراء واحتدمت المنازع والأهواء، قلَّما عرف المجتمع العباسي طائفة من شعراء الحب النقي الطاهر، كاللذين عرفتهم من قبل بوادي الجزيرة، ربوع الحجاز، مثل قيس بن ذريح، جميل بن معمر وعروة بن أذينة.
ولعلَّ العباس بن الأحنف وقلة من أمثاله الشعراء الذين تعذبوا في عشقهم يمثلون بقية ذلك المنحى. وإن لم يبلغوا فيه شأن العذريين قبلهم، فالعباس بن الأحنف قصر شعره، أو كاد، على التغني بعاطفته ومشاعره.
ولِعلي بن الجهم غزل كثير أجاد فيه تصوير لواعج حبه، فقد برع في مقدماته الغزلية الرقيقة، لا سيّما ما كان يستهل به مدائحه للخلفاء. ومن ذائع غزله في صدد مديحه للمتوكل:
عيون المها بين الرصافة والجِسرِ جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري
واشتهر البحتري بالغزل، لما اتسمت به ألفاظه من سهولة ورقّة عباراته من عذوبة وسلاسة. وقد أحب علوة الحلبية وقال فيها جلَّ غزله.
وغزل الشريف الرضي على تأخر عهده من أبرز الشواهد على نُبل الشعور وعفّة اللسان، فصلاً عن سموِّ مكانة رفعة نسب وقصائد الجميلة، التي اشتهرت بالحجازيات نفثات شجية وأثارت كوامن نفسه المضطربة.
وذلك على عكس الرثاء الذي يعني أنَّ المراثي تغاير في كثير من ملامحها معهود شعر الرثاء، الذي يغلب عليه النواح وتبلل قوافيه الدموع.
حيث استطاع ابو العلاء المعرّي أنْ يلحق في أجواء علوية ساميّة وينظر من خلالها إلى الكون والحياة، كان ذلك نظرة كًليّة شاملة؛ وبذلك ارتفع في رثائه من نطاق الحداثة الفرديّة المحدودة إلى رحاب الإنسانيّة الشاملة.
حيث كان لأبي العلاء المعرّي فلسفة أعمق في هذا الصدد لبعاً لغنى فكره ونفاذ بصيرته، حين عمدَ إلى رثاء صديقه الأثير أبي حمزة الفقيه في قصيدته المشهورة والتي كان مطلعها:
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باكٍ ولا ترنُمِ شادِ