الأدب الجاهلي يعجّ بالقيم الأخلاقية والإنسانية بالرغم من النزاعات وعبادة الأوثان التي سادت في ذاك الوقت استطاع الأدب من التأكيد على وجودها، والدعوة إلى ترك الرذيلة والتمسك بالأخلاق الجيدة، مثل الشجاعة والجود والدفاع عن البلاد وغير ذلك، وفي هذا المقال سنوضح أبرز المُثل التي تناولها الشعر في تلك الفترة.
أهل الجزيرة العربية والبيئة
كل شخص يتأقلم مع المكان الذي ولد وترعرع فيه، والبيئة منذ الأزل لها أثر في شخصية قاطنيها فهي من ناحية سهلة لينة لا تكلف فيها يغلب عليها بساطة العيش وسيطرة المشاعر عليهم، ومن جهة أخرى نجد أنها قاحلة شحيحة المياه وقليلة الطعام وكان لهذا الجانب أثر في تكون شخصية وأخلاق أهل الجاهلية إذا عرفوا بصبرهم وشجاعتهم في مواجهة الصعاب.
ولم يعش الجاهلي في عزلة وسط هذه الصحراء القاسية، فهو دائم الترحال وعلى اتصال دائم مع الآخرين عن طريق التجارة وللمكان أثر على شخصيته وأخلاقه، ومن أسماء العلماء الذين تناولوا هذا الموضوع محمد زكي العشماوي الذي يوعز أخلاق المشرقي إلى البيئة التي ترعرع فيها إذ يقول:
“إن الجفاف والجدب ووعورة الحياة هي التي جددت القيم الأخلاقية عند العرب، فشعور العرب بالضعف أمام قوة الطبيعة وقسوتها هو الذي فرض عليهم تقديس القوة والبسالة.”
القيم الأخلاقية للعربي من خلال الشعر الجاهلي
1- الكرم: وهو من أبرز الأخلاق التي اتصف بها أهل الجاهلية وهذه الصفة تميز بها أهل البادية ولا نقصد بالكرم المعنى المادي بل يعني الكرم والجود الداخلي الذي ينبع من التعاطف مع الآخرين، وليس هناك أدنى شك على وجود هذه الصفة عند العرب في الجاهلية.
ونقل إلينا الشعر الكثير من الصور التي تدل على هذه الصفة، وخصوصًا في مقطوعات المدح، حيث ذهب رواد الأدب إلى الثناء على ممدوحيهم ووصفهم بالكرم، وهناك مظاهر عديدة للكرَم مثل نحر الناقة وتقديم لحمها للضيف وعن ذلك يقول امرؤ القيس:
وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِيْ
فَيَا عَجَبًا مِنْ رَحْلِهَا المُتَحَمَّلِ
يَظَلُّ العَذَارَى يَرْتَمِيْنَ بِلَحْمِهَا
وَشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ
وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ
فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي
ونرى صورة مشابه لما ذكره امرؤ القيس عند طرفة بن العبد في نحر النوق:
وَبَركٍ هُجودٍ قَد أَثارَت مَخافَتي
بَوادِيَها أَمشي بِعَضبٍ مُجَرَّدِ
فَمَرَّت كَهاةٌ ذاتُ خَيفٍ جُلالَةٌ
عَقيلَةُ شَيخٍ كَالوَبيلِ يَلَندَدِ
يَقولُ وَقَد تَرَّ الوَظيفُ وَساقُها
أَلَستَ تَرى أَن قَد أَتَيتَ بِمُؤيِدِ
ففي الأبيات السابقة يتحدث طرفة عن خوف النوق منه عندما يَهِمُّ بالذبح فإنه يبالغ في ذلك كرمًا وجود وكلما نهاه الضيف من فعل ذلك ازداد في الذبح ويكون فخورًا في هذا اليوم الذي قدم به الطعام لضيوفه، ويجب أن يدون ويخلد في سجل التاريخ ونرى نحر النوق والكرم حاضرًا في ابيات لبيد حيث يصور نحر النوق وتوزيع لحومها على المحتاجين والأرامل وينشد في ذلك:
وَجَزورِ أَيسارٍ دَعَوتُ لِحَتفِها
بِمَغالِقٍ مُتَشابِهٍ أَجسامُها
أَدعو بِهِنَّ لِعاقِرٍ أَو مُطفِلٍ
بُذِلَت لِجِيرانِ الجَميعِ لِحامُها
فَالضَيفُ وَالجارُ الجَنيبُ كَأَنَّما
هَبَطا تَبالَةَ مُخصِباً أَهضامُها
2- الشجاعة والإقدام: قد تميز أهل الجاهلية بالشجاعة والإقدام في تحدي الصعاب دون تردد وقد دوَّن الكلام المنظوم ذلك، ومن الأمور التي تدفعه إلى الإقدام يقينه بالموت وأن الجبن والهرب لا يحميه من الفناء.
لقد اعتاد أهل الجاهلية على الشجاعة وحرصوا على تعليمها لأبنائهم وحثهم على التمسك بها، والشجاعة لديهم أهم من النصر النهائي وعن ذلك يقول الدسوقي: ” والشجاعة تقتضي أن يكون الفتى ذا عزيمة وحزم، ولا يتردد ولا يتلوم، وإلا قضى عليه تردده وتقاعسه، فهو ينحاز فرسانًا وشجعانًا، فلا بد أن يكون قوي الجنان نافذ الرأي ذا بصيرة.”
ومن مظاهر الإقدام مساعدة الملهوف وتلبية النداء وقت المحن والنهوض مدافعًا عن قبيلته وقت المعارك، ومن صفاتهم أنهم لا يسألون الملهوف عن سبب الاستغاثة إنما يهبون إلى مساعدته.
ومن صور الشجاعة لديهم أنهم يتجنبون إيذاء النساء والصغار وحتى الشيوخ وكان الفارس يبحث في ساحة الحرب عن فارسٍ شجاع ينازله، ومن هنا نرى أن رواد الشعر يتوجهون إلى وصف أعدائهم بالقوة والبأس وأنهم لا يتوانون عن مواجهتهم في ساحة الحرب وعن ذلك يتحدث عنترة بن شداد وينشد:
بطلٍ كأَنَّ ثيابَهُ في سَرْحة ٍ
يحذى نعال السبتِ ليس بتوأمِ
صفة الشجاعة من أبرز الصفات التي أهتم بها طرفة وحافظ عليها وينشد:
وَلَولا ثـلاثٌ هُـنَّ مِـن لَذَّةِ الفَـتى
وحـقِّك لَم أَحـفَـل مَـتَـى قامَ عُوَّدِي
سِـيـاحـةُ قـلبِـي فـي رِيَـاضٍ أَرِيـضَةٍ
مِـنَ العـلمِ مُجتازاً عَلى كُلِّ مَورِدِ
وَتَــســبِــيــحُــنــا لِلَّهِ جَـلَّ جَـلالُهُ
عَـشِـيّـاً وبـالإِبـكـارِ فِي كلِّ مَسجِدِ
وتـرتـيـلُ آيـاتِ الكـتـابِ مُـنَـوِّر
اًبِهـا جـوفَ لَيـلِي فـي قيامِ تَهَجُّدِي
3- الأخذ بالثأر: تعدُّ هذه الصفة من مظاهر الشجاعة لديهم وقد تملكت نفوس الجاهلين وحرصوا عليها واعتبروها من الوسائل للمحافظة على كرامة وشرف القبيلة وعن هذه الصفة يقول شوقي ضيف: ” كان أكبر قانون عندهم يخضع له كبيرهم وصغيرهم هو قانون الأخذ بالثأر، فهو شريعتهم المقدسة، وهي شريعة تصطبغ عندهم بما يشبه الصبغة الدينية، إذا كانوا يحرمون على أنفسهم الخمر والنساء والطيب حتى يثأروا من غرمائه.”
وقد تم تداول هذه الصفة من قبل شاعرات تلك الفترة ونذكر منهن بنت حكيم العبيدية التي حمست قومها الثأر لأبيها حيث قالت:
أَيَرجو رَبيعٌ أَن يؤوبَ وَقَد ثَوى
حَكيمٌ وَأَمسى شلوه بمطبّقِ
فَإِن كنتمُ قَوماً كِراماً فَعَجّلوا
لَه جُرأةً مِن بأسِكم ذات مصدقِ
فَإِن لَم تَنالوا نيلكم بِسُيوفكم
فَكونوا نِساء في الملاء المخلّقِ
وَقولوا ربيعٌ ربّكم فَاِسجُدوا له
فَما أَنتمُ إلّا كَمعزى الحبلّقِ
4- الوفاء بالوعد: كان أهل الجاهلية متمسكين بوعودهم محاولين الوفاء بها حتى لو كان الوعد مع شخص فارق الحياة وسواء كان لعدو أو صديق، والوفاء عند العربي مرتبط بالإقدَام والشجاعة وعن هذه العادة يقول زهير بن أبي سلمى:
وَإِمّا أَن يَقولوا قَد وَفَينا
بِذِمَّتِنا فَعادَتُنا الوَفاءُ
وَإِمّا أَن يَقولوا قَد أَبَينا
فَشَرُّ مَواطِنِ الحَسَبِ الإِباءُ
فَإِنَّ الحَقَّ مَقطَعُهُ ثَلاثٌ
يَمينٌ أَو نِفارٌ أَو جِلاءُ
وكذلك قول قطبة بن محصن ونفيه للغدر حيث يقول:
فَسُمَيَّ وَيحَكِ هَل سَمِعتِ بِغَدرَةٍ
رُفِعَ اللِواءُ بِها لَنا في مَجمَعِ
إِنّا نَعِفُّ فَلا نَريبُ حَليفَنا
وَنَكُفُّ شُحَّ نُفوسُنا في المَطمَعِ
وفي النهاية نستنتج إن الإنسان في الجاهلية كان يتسم بمجموعة من القيم الأخلاقية ومن أهمها الجود والشجاعة، وقد نقل لنا الشعر العديد من القيم ومن أبرز رواد الأدب الذين تناولوها طرفة وعنترة وغيرهم الكثير.