اللغة والنوع الاجتماعي

اقرأ في هذا المقال


نبذة عن اللغة والنوع الاجتماعي:

تتنوع البحوث الأكاديمية المختلفة حول معالجتها لموضوع اللغة والنوع الإجتماعي، والتي تبين من خلالها أنه من الممكن تكون العلاقات والتقاطعات والتنافرات هذا أيضًا في هذا الصدد. يتخطى البحث في  مجال اللغة والنوع الاجتماعي الحدود لمعظم التخصصات والمجالات اللغوية. ولكن يمكننا القول بإنه مجال يشمل العديد من التخصصات النظرية مثل علوم اللغويات واللسانيات التطبيقية، والأنثروبولوجيا اللغوية وتحليل الخطاب والجندرية واللغويات الاجتماعية التفاعلية ودراسات التوسط عبرالأساليب وعلم اللغة الاجتماعي والدراسات الإعلامية والدراسات المختلفة والدراسات الإعلامية النسوية وعلم النفس النسائي.

وفيما يتعلق بالنواحي المنهجية للغة والنوع الاجتماعي، لا يوجد منهج واحد ومحدد يمكنه أن يشمل ويحيط بهذا المجال، فقد تلعب مجموعة مختلفة من المنهجيات دورا كبيراً  وذات فعالية عند دراسة اللغة والفوارق المبنية على النوع الاجتماعي من التذكير والتأنيث مثل مناهج الاستكشاف، وأبنية الكلام الإنشائية والإثنولوجية والإثنوغرافية والتجريبية والإيجابية وإنتاج وإعادة ما وصفته العالمة اللغوية سوزان سبير بأنها “افتراضات نظرية ذات طابع سياسي مختلفة ومتنوعة ومنافسة والتي يمكن من خلالها أن يتسنى لنا فهم و إستيعاب الخطاب والهوية والإيديولوجية بين الجنسين البشريين”.

ونتيجة لهذه التحليلات، يمكننا أن نقسم البحث في هذا المجال إلى ثلاثة مجالات رئيسية للدراسة والبحث العلمي: أولاً يوجد اهتمام كبير وواسع ومستدام من قبل علماء اللغة عامة وعلماء علم اللغة الاجتماعي خاصة بأصناف وأنواع الكلام المرتبطة بالنوع الاجتماعي سواء كان ذكر أم أنثى، ثانيا هناك اهتمامات متعددة ومرتبطة بالأعراف والعادات الإجتماعية والاتفاقيات التي يتم من خلالها إعادة إنتاج استخدام اللغة الجندرية المرتبطة بالذكر أوالأنثى، فتركز هذه الأبحاث على اللغة الجندرية في مجتمع معين والتي تعرف بالتنوع والتمايز الخطابي أو تمايز واختلاف اللهجات الاجتماعية المرتبطة بنوع اجتماعي معين، وتسمى أيضًا باللهجة الجندرية (genderlect)، وثالثا هناك دراسات متعددة تركز على السياق والطرق المحلية للكلام والتي يتم من خلالها معرفة كيفية بناء الفوارق اللغوية المبنية على أساس النوع الاجتماعي ومن ثم تفعيلها في المجتمعات.

تاريخ دراسات اللغة والنوع الاجتماعي:

تم دمج الدراسات المبكرة حول مفهوم اللغة والنوع الاجتماعي إلى مجالات علم اللغة واللغويات والنظرية النسوية والممارسة السياسية. بدأت الحركة النسوية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في البحث عن العلاقة بين اللغة والنوع الاجتماعي، فارتبطت هذه الأبحاث بحركة تحرير المرأة، وكان هدفها الأساسي هو اكتشاف العلاقة بين استخدام اللغة وعدم التناسق بين الجنسين أي وصف وتحليل الخطاب وبيان ما هو الحديث المناسب لكلا النوعين الاجتماعيين. ومنذ ذلك الحين، تعمل النسويات على الطرق التي تحافظ بها اللغة على النظام الأبوي (أي حكم الذكر هو الحكم السائد في المجتمع وهو نظام تسعى النسويات إلى التقليل منه قدر الإمكان) الحالي والتمييز على الأساس القائم على النوع الاجتماعي.

فعند دراسة اللغة والنوع الاجتماعي يدور في البال سؤالان مهمان، فالأول يدور حول وجود التحيز والتمييز بين الجنسين في استخدام اللغات، والآخر حول الاختلافات بين الجنسين أثناء استخدام اللغة. فعلى سبيل المثال هناك العديد من المصطلحات التي يستخدمها الذكر ولكن استخدام الأنثى لهذه المصطلحات يعتبر خطيئة في المجتمعات العربية وحتى الغربية، وكذلك الأنثى تستخدم مصطلحات ونبرات صوتية يعتبر خطيئة على الذكر استخدامها في شتى المجتمعات.ومع ذلك، فإن هذين السؤالين قسما هذا المجال إلى منطقتين منفصلتين من الحقول الدراسية.

تعتبر مشاعر القوة هي أبرز المشاعر التي تعبر عن الأشخاص الذين يدرسون هذا العلم عند إجراء دراسة فكل طرف يحاول أبراز وإظهار نفسه بشكل أكبر. فيحاول الباحثون فهم أنماط وأشكال اللغة لإظهار كيف من الممكن أن يعكس اختلال توازن القوة في المجتمع. فعلى سبيل المثال، يعتقد البعض منهم أن الرجال يتمتعون بمزايا وقوة اجتماعية يمكن رؤيتها في استخدام الرجال للغة. كما يعتقد البعض أن هناك عيوبًا للمرأة في المجتمع تنعكس على استخدام المرأة في اللغة.

فقال اللغوي لاكوف روبن، الذي يعتبر كتابه “اللغة ومكان المرأة” والذي يعد أول بحث رسمي في هذا المجال، “تنعكس هامشية النساء وعجزهن في الطريقة التي يتوقع من الرجال والنساء التحدث بها والطريقة التي يتحدث بها النساء “. على سبيل المثال، حاول بعض باحثي اللغة النسوية اكتشاف كيف تجلت مزايا الرجال في اللغة، فلقد جادلوا كيف كان الفلاسفة والسياسيون والنحويون واللغويون وغيرهم في الماضي رجالًا يتحكمون في اللغة، لذلك أدخلوا أفكارهم المتعلقة بسيطرة الذكور فيها كوسيلة لتنظيم هيمنتهم، ولذلك يبحث هذا المجال عن الطريقة التي يمكن للغة أن تساهم بها في عدم المساواة والتمييز والتباين القائم على أساس النوع الاجتماعي في المجتمع.

اللغة والقوة:

في الماضي اعتاد العديد من باحثي اللغة النسوية الاعتقاد بأن القوة شيء منفصل وبعيد كل البعد عن اللغة، ممّا يساعد المجموعات القوية، كالرجال على السيطرة على طريقة إنتاج اللغة واستخدامها في المجتمع. ولكن في الوقت الحاضر، يعتبر بعض الباحثين أن القوة جزء لا يتجزأ من الهياكل اللغوية بدلاً من أن تكون جزء خارجها ولا علاقة لها باللغة، فهي أحد أهم عناصر اللغة. فعلى سبيل المثال، تساعد لغة العلم في تنظيم أفكار المجموعات المهيمنة فيها، والتي لا يمكن أبدًا أن تكون محايدة ومستقلة أبداً.

حتى في علم النفس، كان لتفسيرات النوع الاجتماعي دائمًا بعض الفوائد للأكاديميين الذين كانوا يكتبون عنه، لذلك كان من المهم دائمًا أن يستخدمها الشخص الذي يستخدم اللغة وأن يعرف كيفة استخدمها لشرح شيء ما. تعتبر المعايير والطرق المناسبة للتحدث بين الجنسين مثالاً واضحاً لمفهوم القوة في اللغة. حيث يتواجد هناك مجموعات محددة من القوى الاجتماعية التي تحدد الطرق التي من المفترض أن يتواصل بها الجنسين أو النوعان الاجتماعيان مع بعضهما البعض. ونظرًا لأن هذه المعايير هي نتائج التسلسل الهرمي الحالي في المجتمع، فإن الشك فيها يؤدي إلى تحدي الأنظمة الاجتماعية التي تنشأ هذه الأنماط في المجتمعات.

كما تفترض العديد من الدراسات في هذا المجال أن هناك اختلافات بين الجنسين في استخدام اللغة؛ لذلك يقومون بفحص كيفية اختلاف طرق وأنماط الكلام واستخدام الخطاب بين النوعان الاجتماعيان في المجتمعات. ومع ذلك، فإن هذا النهج لا يتضمن الجدل حول من قرر في البداية تحديد هذه الاختلافات والمعايير في استخدام اللغة بين الجنسين، ولماذا يتم قبول هذه المعايير بشكل عام. فتعد اللغة نظام معقد وديناميكي ينتج عنه معنى محدد حول الفئات الاجتماعية المختلفة مثل نوع الجنس البشري. وبهذا المعنى، فإن القوة ليست شيئًا خارج هذا النظام، لكنها تعد جزء لا يتجزأ منه.

يختلف مفهوم النوع الاجتماعي ويتباين من ثقافة إلى أخرى ومن وقت لآخر. “المؤنث” و “المذكر” هما مفهومان تم إنشاؤهما اجتماعيًا، حيث أصبحا مصطلحلن طبيعيان كغيرهما من المصطلحات من خلال مجموعة من الأفعال والأحداث المتكررة. يؤدي أداء الأفعال وفقًا للمعايير الاجتماعية إلى ظاهرة الكلام القائم على النوع الاجتماعي، وبما أن الأنوثة والذكورة ليست مفاهيم ثابتة بل هي مفاهيم متباينة ومختلفة من زمن إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، فإن أسلوب حديثهما يمكن أن يكون أيضًا نتيجة لعلاقات القوة في المجتمع التي تنظم المعايير والقيم الاجتماعية.

ففي كل مجتمع، يتم تعلم مفهوم النوع الاجتماعي منذ الطفولة المبكرة من خلال المحادثة والفكاهة والأبوة والمؤسسات ووسائل الإعلام،وعدة طرق أخرى مستخدمة لنقل المعرفة. ومن ثم، يبدو مفهوم النوع الاجتماعي مفهومًا طبيعيًا وحتى علميًا لجميع أفراد المجتمع. فيحاول العديد من العلماء ليس فقط العثور على الحقيقة وراء هذه  الفطرة السليمة (أي فكرة النوع الاجتماعي) ولكن يعد فهم سبب اعتبار هذا المفهوم أمرًا محتومًا ومفروغًا منه.

يتطلب هذا النوع من البحث التشكيك والتدقيق في بعض الافتراضات الأساسية حول النوع الاجتماعي، ومقاربة هذا المفهوم من وجهات نظر مختلفة. فيعد النوع الاجتماعي شيء يولد به الناس بالإضافة إلى  كونه مفموم يتعلمه الناس من خلال الأداء والتصرف بناءً على المعايير المتوقعة منه في المجتمع والبيئة المحيطة، والتي لا علاقة لها بعلم وظائف الأعضاء والهرمونات.

وفيما يتعلق بالكفاءة اللغوية (أي القدرة على إنتاج المعرفة وفهمها من خلال اللغة) يعتقد علماء اللغويات الاجتماعية والأنثروبولوجيا اللغوية أن معرفة البنية والتراكيب اللغوية والصرف فقط لا يمكن أن تساعد الشخص على التواصل مع الآخرين. بدلاً من ذلك، يعتقدون أن المرء يحتاج إلى معرفة الأعراف والقيم والعادات الاجتماعية التي يستخدمها الناس بلغات مختلفة من أجل التفاعل معهم.

كما أن الناس يتعلمون تدريجياً كيفية استخدام اللغة في مواقف اجتماعية محددة وتطوير الكفاءة التواصلية مع بعضهم البعض؛ فلذلك تعد اللغة والأعراف الاجتماعية ديناميكية ومترابطة. ونظرًا لاستخدام الناس للغة تبعا لما يتعلق بهذه المعايير، فإنها تلعب دورًا حيويًا في إظهار المعايير الاجتماعية والحفاظ عليها ويمكن أن تكون أداة لإعادة إنتاج علاقات وروابط القوة والاضطهاد بين الجنسين. فعلى سبيل المثال، يستخدم مصطلح سيد للإشارة إلى الرجال ولكن يستخدم مصطلح السيدة (اسم عائلة الزوج) أو أنسة للدلالة على المرأة ولكنها تدل أيضًا على الحالة الاجتماعية على عكس الرجل فيتواجد مصطلح واحد فقط للدلالة عليه.


شارك المقالة: