هناك عِبارات ومَباني وألفاظ خرجت من أفواهِ حُكَماء، وخَطَّتهَا يَدُ عُلماء وغَيورِين صُلَحاء، كَتبَ الله لها الذُّيوعَ والدَّوام والإنتِشار والإستمرار، وكأنها الوحي من السماء، أو حقائق مُتَشبّعة بأنفاسه، ومثل هذه العبارات لا تَخرج إلا من كَنفِ الفتن والأزمات، ولا يُسمَع استِهلالهَا إلا في مَخاض المُدلَهمَّات، تَخرج لتَنفُذَ من أقطار الأرض والأزمنة والأوقات، بَلْ لِتَستَوعب ما وراء حُجُبِ القُرون الآتية، والعُقود المُستَشرِفة.
كلمة وعِبارة ضَارِبة في عُمقِ الإجتماع، مَليئة بالحكمة والواقعية والمُكَاشَفة، تلك المقولة التي جعلها ابن خلدون عنواناً للفصل الثالث والعشرين من مُقدّمته الشَّهيرة؛ والتي يَحكي من خلالها كيف أنَّ المغلوب مُولَعٌ أبداً( دائماً) بِتَقليد الغَالب في شِعاره وزِيّهِ ونِحلَتهِ، وسائر أحواله وعوائده.
صاحب المقولة
ابن خلدون، وهو عبدالرحمن بن محمد ابن خلدون، ويُكَنّى بأبي زيد، وعُرِف أيضاً بِوَليّ الدِّين الحَضرَمي الإشبِيليّ، وُلِدَ ابن خلدون في تونس في عام 1332م الموافق لعام 732هـ، وهو ينتمي إلى أصول أشبيليّة أندلسيّة. وفي تونس تَرَعرَعَ وشَبّ؛ وتخرّج من جامعة الزيتونة، وَلِيَ الكتابة والوَساطة بين الملوك في بلاد المغرب والأندلس، ثمَّ انتقل إلى مصر حيث قلده السُّلطان بَرقُوق قضاء المالكية؛ ثُمَّ استقال من منصبه وانقطع إلى التَّدريس والتَّصنيف؛ فكانت مُصنَّفاتهِ من أهمِّ المصادر للفِكر العالمي، ومن أشهرها كتاب” العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعَجم والبَربر ومن عَاصَرهم من ذوي السُّلطان الأكبر، وهو المعروف (بتاريخ ابن خلدون).
نشأة ابن خلدون
يُعَدّ “ابن خلدون” شخصية عبقرية عربية متميزة، فقد كان عالماً مَوسُوعيّاً مُتعدّد المَعارف والعلوم، وهو رائد مُجَدِّد في كثير من العلوم والفنون، فهو المؤسس الأول لعلم الاجتماع، وإمام ومجدد في علم التاريخ، وأحد رواد فن “الأتوبيوجرافيا”؛ وهو ( فن الترجمة الذاتية)، كما أنّه أحَد العلماء الرَّاسِخين في علم الحديث، وأحد فقهاء المالكية المَعدُودين، ومُجدِّد في مجال الدِّراسات التربوية، وعلم النفس التربوي والتعليمي، كما كان له إسهامات متميزة في التجديد في أسلوب الكتابة العربية.
ونشأ في بيت علم ومَجدٍ عريق، فحفظ القرآن في وقت مبكر من طفولته، وقد كان أبوه هو معلمه الأول، كما درس على مشاهير علماء عصره، من علماء الأندلس الذين رحلوا إلى تونس بعدما ألم بها من الحوادث، فدرس القراءات وعلوم التفسير والحديث والفقه المالكي، والأصول والتوحيد، كما درس علوم اللغة من نَحوٍ وصَرفٍ وبلاغة وأدب، ودرس كذلك علوم المَنطق والفلسفة والطبيعية والرياضيات، وكان في جميع تلك العلوم مَثار إعجاب أساتذتهِ وشيوخه.
ومن أبرز هؤلاء الأساتذة والمشايخ: محمد بن عبدالمُهَيمن الحضرمي، ومحمد بن سعد بن بَرال الأنصاري، ومحمد بن العربي الحصايري، ومحمد بن إبراهيم الآبلي، وغيرهم.
وكان أكثر هؤلاء المشايخ تأثيراً في فِكرهِ وثقافته: محمد بن عبدالمُهيمن الحَضرمي، إمام المُحدِّثين والنُّحَاة في المغرب، ومحمد بن إبراهيم الآبلي، الذي أخذ عنه علوم الفلسفة والمَنطق والطبيعة والرياضيات.
ثمَّ اتّجه ابن خلدون إلى الوظائف العامة، وبدأ يَسلُك الطريق الذي سَلكه أجداده من قبل، والتحق بوظيفة كِتابية في بلاط” بني مَرِين”، ولكنّها لمْ تَكُن لتُرضِي طُموحه، وعينه السلطان “أبو عنان”؛ ملك المغرب الأقصى، عضواً في مجلسه العلمي في مدينة فَاس، فأتُيح له أنْ يُعاود الدَّرس على أعلامها من العلماء والأدباء الذين نزحوا إليها من “تونس” و”الأندلس” و”بلاد المغرب”، بعد أنْ حلَّ بها وباء الطّاعون.
وظل “ابن خلدون” في تلك الوظيفة لمدة عامين حتى ولّاهُ السلطان “أبو سالم” خِطّة المظالم، فأظهر فيها من العدل والكِفاية ما جعل شَأنهُ يَعظُم؛ حتى نَفَسَ عليه كثير من أقرانه ومُعاصريه ما بلغه من شُهرة ومكانة، وَسَعوا بالوِشَاية بينه وبين السلطان حتى تَغيَّر عليه.
فلمّا ثَارَ رجال الدولة على السلطان” أبي سالم” وخلعوه، وَولُّوا مكانه أخاه “تاشفين”؛ بَادَرَ “ابن خلدون” إلى الإنضمام إليه، فأقَرَّهُ على وظائفه وزاد له في رواتبه.
وكانت لابنِ خلدون مَكانة علميّة وفكريّة مُميَّزة؛ وذلك لدَورهِ في صناعة التاريخ، فَلَمْ يعتمد فقط على تدوين الوقائع والأخبار، بل حَرِصَ على تحليلها وفَهمها، وربَط تحرُّكاتها مع منهج مُحدّد؛ وهذا ما جعل بعض المُفكّرين يرَونَ أنّ ابن خلدون هو من أسّس التاريخ كعلمٍ مستقلّ، وساهم في بناء الأُسُس الأولى لعلم الاجتماع.
مُؤلّفات ابن خلدون
ألّفَ ابن خلدون أثناء حياته العديد من المُؤلّفات، منها شرح البُردَة، وكتب مُلخّصاتٍ حول كُتب ابن رشد، وألّف كتاباً في علم الحساب، وكتاب المُقدّمة المشهور الذي تُرجِم من اللغة العربيّة إلى العديد من اللغات، مثل اللغات الفرنسيّة، والإيطاليّة، والتركيّة، إضافةً إلى ما سبق فإنّ ابن خلدون يُصنَّف ضمن الشعراء المُجيدين، ولكنّ دراسته للعلوم جعلته قليل الإتقان في نَظم الشّعر.
ويحكي ابن خلدون أنَّ الدّافع الأول له لوضع هذا العلم” علم الإجتماع”، هو وضع مَنهجية لتَخليص البُحوث التاريخية من الأخبار الكاذبة، وإنشاء أداة تُمكِّن المُؤرّخين من تَمحيص الأخبار والحوادث، ويؤكد بقولهِ:” حِينَئذٍ إذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران، عَلمنا ما نَحكم بقبوله مِمَّا نَحكم بتزييفه، وكان ذلك لنا معياراً صحيحاً يتَحرّى به المُؤرّخون طريق الصِّدق والصَّواب فيما ينقلونه، وهذا غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا».
أثّرَت الحياة السياسيّة في ابن خلدون، سواءً تلك السّائدة عند الحَفصِيّين الذين يعيشون في تونس، أو السّائدة عند المَرِينيّين الذين يعيشون في مدينة فاس، ولكنّه قرّر لاحقاً اعتزال السياسة بعد وفاة صديقه الوزير لسان الدِّين ابن الخطيب؛ فغادر ابن خلدون الحياة المدنيّة، واختار الإنعزال لمدّة أربعة أعوام في الفترة الزمنيّة المُمتدّة من عام 776هـ-780هـ في ولاية وَهرَان الجزائريّة، تحديداً داخل قلعة” بني سلامة” في الجهة الغربيّة من الجزائر، وأثناء هذه الفترة ألّف كتاب مقدّمة ابن خلدون أشهر كُتُبه.
ثُمَّ انتقل ابن خلدون للعيش في مصر والشّام، فعُيِّنَ في منصب قاضي قضاة المالكيّة أثناء وجوده في مصر عدّة مرّات، وعندما عاش في مدينة دمشق حاصرها” تيمورلنك”، فتوجّه ابن خلدون إليه حتّى يُنقِذ المدينة، ثمّ سافر لاحقاً إلى مصر.
لقد تَجمَّعت في شخصية ابن خلدون العناصر الأساسية النَّظريَّة والعَمَليَّة، التي تَجعل منه مُؤرِّخاً حقيقياً؛ رَغم أنَّه لَمْ يُولِ في بداية حياته الثقافية عناية خاصة بمادة التاريخ؛ لأنّه لمْ يُراقب الأحداث والوقائع عن بُعد كبقية المؤرخين، بل ساهم إلى حدٍّ بعيد ومن موقع المسؤولية في صنع تلك الأحداث والوقائع خلال مدة طويلة من حياته العملية تجاوزت 50 عاماً، وضمن بُوتَقة جغرافية امتَدَّت من الأندلس وحتى بلاد الشام. فقد استطاع، ولأول مرة، أنْ يُوضّح أنَّ الوقائع التاريخية لا تَحدُث بمَحضِ الصُّدفة، أو بسبب قُوى خارجية مجهولة، بل هي نتيجة عوامل كامنة داخل المجتمعات الإنسانية، لذلك انطلق في دراسته للأحداث التاريخية من الحركة الباطنية الجَوهريَّة للتاريخ؛ فهو بذلك قد اتَّبَع مَنهجاً في دراسة التاريخ يجعل كلَّ أحدَاثهِ مُلازمةً للعمران البشري، وتَسيرُ وفقَ قانون ثابت.
عنوان هذا المقال{ المَغلوب مُولَعٌ دائماً بتقليدِ الغالب}؛ هي إحدى أقوال ابن خلدون، ويُشَخِّصهُ فيما أصابَ الأمَّة وما يُمكن أنْ يُصِيبهَا من ضَعف ووَهنٍ وتَبعيّة مُشبَّعة بالتَّقليدِ والإستِدراج المُدخِل لجُحرِ الضَّبّ، وإشَاعةِ ثقافة هذا الدخول، واستِمرَائهِ إلى الحَدِّ الذي يَستطِيبُ معه الكُلّ الشعور بالضَّعَةِ والدُّونيَّة، فيتحَوّل هذا الشُّعور والإستِمراء إلى وَلعٍ لهُ لوازم ومُقتَضيات في الحياة الخاصة والعامة للمغلوب المنهزم، يَحصلُ ذلك ويَتكرَّر، كُلّما عاشت الأمة نَقاهَة ما بعد التَّداعِي والهزيمة، ويُمثّلُ على ذلك، ما كان بأرض الأندلس بقوله:” كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمَمِ الجَلالِق، فإنّك تَجدهُم يَتشبَّهون بهم في ملابسهم وشاراتِهِم والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يَستَشعِر عن ذلك النَّاظر بعين الحِكمةِ أنّه من علامات الإستيلاء؛ والأمر لله”.
أشهَر أقوال ابن خلدون
الناس في السَّكينةِ سواء، فإن جاءت المِحَن تبَايَنوا.
من يقرأ القليل في الفَلسفة، سَيتّجه بأغلب الأحوال إلى الإلحاد، ومن يقرأ الكثير منها يَتَّجه للإيمان بكل حال من الأحوال.
الظُّلم مُؤذِن بخراب العمران.
قِمَّة الأدب؛ أنْ تُنصِت إلى شخص يُحدّثك في أمرٍ، أنت تعرفهُ جيداً وهو يَجهله. الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها.
إنَّ العَرب لا يحصل لهم المُلك إلا بِصِبغة دينية أو ولاية، أو أثر عظيم من الدِّين، بسبب خُلق التَّوحُّش المُتَأصِّل فيهم، وهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغِلظَة والأنَفَة، وبعد الهِمّة والمنافسة في الرِّئاسة فَقلَّما تَجتمع أهوائهم.
إنَّ التاريخ في ظَاهِرهِ لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق.
التاريخ فَنّ يُوقِفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم وحضاراتهم.
الصراعات السياسية لا بُدّ لها من نَزعة قبليّة أو دينية، لكي يُحفّز قادتها أتباعهم على القتال والموت، فيتخيّلون أنّهم يموتون من أجلها.
إذا فَسدَ الإنسان في قُدرته، ثم في أخلاقه ودينه ، فسدت إنسانيته وصار مَسخاً على الحقيقة.
والمغلوب مُولَع دائماً بتقليد الغالب.
وفاة ابن خلدون
توفي ابن خلدون في 19 آذار، من عام 1406م، وسَارَت القاهرة في ودَاعهِ؛ العَامَّة والعلماء والقضاة والأمراء، ودُفن جثمانه بمقابر الصُّوفية، خارج باب النَّصر، في اتجاه حَيّ العباسية في القاهرة.