يعتبر الموت سر من أسرار الوجود الغامضة وله تأثير كبير في حياة البشر منذ الأزل، وحاول رواد الأدب في مختلف العصور فهم هذه الحقيقة والتعبير عنها وتصوير مدى شوقهم وحنينهم لموتاهم، ورواد الشعر في العهد العباسي كغيرهم من الأدباء الذين تأثروا بالموت وعمدوا إلى تصويره في مقطوعاتِهم، وفي هذا المقال سنوضح مشاهد الموت في هذا الأدب في ذاك الوقت.
مشاهد الموت في الشعر العباسي
يرى رواد الكلام المنظوم في الفناء طهارة روحية حيث أن الروح تنطلق من سجنها داخل الجسد وتتحرر منه وبذلك يقول أبو العلاء المعري:
أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني
فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ
لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي
وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ
فالمعرّي يرى في أبياته السابقة روحه مسجونة داخل جسمه الخبيث ولا خلاص منه إلا بالموت ومن قوله في ذلك أيضًا:
وَالروحُ طائِرٌ مَحبَسٍ في سِجنِهِ
حَتّى يَمُنَّ رَداهُ بِالإِطلاقِ
سَيَموتُ مَحمودٌ وَيَهلِكُ آلِكٌ
وَيَدومُ وَجهُ الواحِدِ الخَلّاقِ
يا مَرحَباً بِالمَوتِ مِن مُتَنَظِّرٍ
إِن كانَ ثُمَّ تَعارُفٌ وَتَلاقِ
وكان أبو العتاهية من أبرز الشعراء الذين تحدثوا عن هذه الحقيقة في مقطوعات الزهد الخاصة به وبرزت كلمة الموت في مقطوعاته مواجهة للعب والعبث التي مرَّ بها في بداية حياته، وكان الموت من أقوى الأسلحة للتخويف والزجر وعن ذلك يقول:
قُرِنَ الفَناءُ بِنا فَما
يَبقى العَزيزُ وَلا الذَليلُ
وَالمَوتُ آخِرُ عِلَّةٍ
يَعتَلُّها البَدَنُ العَليلُ
يظهر في كلام أبو العتاهية الإكثار من التحذير في الغرق بملذات الحياة، ويجب الانصراف إلى كسب الآخرة فهي الباقية، والموت بوابة عبور إلى الحياة الأخرى ويقول:
وَالخَيرُ مَوعِدُهُ الجِنا
نُ وَظِلُّها وَرَحيقُها
وَالشَرُّ مَوعِدُهُ لَظاً
وَزَفيرُها وَشَهيقُها
وَما حُبُّ دارٍ لَيسَ يُؤ
مَنُ سَيلُها وَحَريقُها
أَشقى بَني الدُنيا بِها
لِلَّهِ أَنتَ صَديقُها
واستمر الشعراء في حيرتهم أمام حقيقة الحياة والموت وتباينوا في تناولها وعن ذلك قال المتنبي:
وَالمَوتُ آتٍ وَالنُفوسُ نَفائِسٌ
وَالمُستَغِرُّ بِما لَدَيهِ الأَحمَقُ
وَالمَرءُ يَأمُلُ وَالحَياةُ شَهِيَّةٌ
وَالشَيبُ أَوقَرُ وَالشَبيبَةُ أَنزَقُ
كما تحدث عن ضعف البشر وعدم قدرتهم من دفع الموت عنهم وظلوا حائرين أمام هذه الحقيقة المطلقة ويقول:
وَقَد فارَقَ الناسُ الأَحِبَّةَ قَبلَنا
وَأَعيا دَواءُ المَوتِ كُلَّ طَبيبِ
سُبِقنا إِلى الدُنيا فَلَو عاشَ أَهلُها
مُنِعنا بِها مِن جَيأَةٍ وَذُهوبِ
تَمَلَّكَها الآتي تَمَلُّكَ سالِبٍ
وَفارَقَها الماضي فِراقَ سَليبِ
ونرى المعري وهو متصالح مع الموت ويتحدث عما يتبع البشر بعد ذلك، وكيف سيحاسبون على أعمالهم إما يكون في شقاء أو نعيم وعن ذلك يقول:
صَاحِ هَذِهْ قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـب
فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَاد
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ
أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ
سِرْ إِنِ اسْطَعْتَ فِي الْهَوَاءِ رُوَيْدًا
لَا اخْتِيَالًا عَلَى رُفَاتِ الْعِبَادِ
إِنَّ حُزْنًا فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَاف
سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ
وكان البحتري يشبه الموت باللون الأسود دلالة على التشاؤم وعِظم المصيبة التي تحل بسبب هذه الواقعة، ولقد تحدث عنها في أبياته موظفًا الأسود ليدل عليه حيث يقول:
فإذا جدحت سود المنايا فأخلق الرّ
جال بأن يُسقى رداهنَّ سودها
كما لجأ البحتري إلى تشبيه الموت بأبشع صوره وتحدث عنه وكأنه حيوان مفترس فقال:
وترى المنية كالحًا أنيابها
ثكلى تمخضُ مُطفلًا بنفاس
أما محمود الوراق يتحدث عن شبابه ويتحسر على العمر الذي انقضى وقارب على الانتهاء فينشد:
لمَّا طوتْكَ الأربعونَ
وآنَ للعُمْرِ انْقِراضُ
جادَ الشباب بنفسه
وبَدَا بعارضك البياضُ
يظهر في أبيات الوراق أنه كان منغمسًا في اللهو والغزل وغرق بملذات الحياة ولم يتجه إلى الزهد إلا بعد انقضاء العمر وعند وصوله لعمر الستين يقول:
أما بعد الستين تبكي الطَّلولا
وتندب رسما ونؤيا محيلا
وقد نجم الشيب في عارضيه
وجر على مغرقك الذيولا
ونراه في آخر عمره قد أحس بالندم على أعماله التي مضت وأصبح يشعر بثقل الحياة واقتراب أجله، وهل ينفع الآن الندم وطلب العفو والمغفرة من الله سبحانه وتعالى:
إِنَّ ظَنّي بِحُسنِ عَفوِكَ يا رب
ب جَميلٌ وَأَنتَ مالِك أَمري
صُنتُ سِرّي عَنِ القَرابَةِ وَالأَه
لِ جَميعاً وَأَنتَ موضِعُ سِرّي
ثِقَةً بِالَّذي لَدَيكَ مِنَ السِر
رِ فَلا تُخزِني بِهِ يَومَ نَشري
وفي مقطوعات الطغرائي نراه ساخطًا وغاضبًا من الموت الذي يخطف الأحباب ويترك في النفس أثر عظيم ويدفعه إلى تمني الفناء والتخلص من الآلام ونراه يزهد في الحياة بعد وفاة زوجته ويقول في رثائها:
إِن ساغَ بعدَكَ لي ماءٌ على ظَمَأٍ
فلا تجرعتُ غيرَ الصابِ والصَّبَرِ
وإِن نظرتُ من الدنيا إِلى حَسَنٍ
مُذْ بِنْتَ عنِّي فلا مُتِّعْتُ بالنَّظَرِ
صحبتَني والشباب الغضّ ثم مضى
كما مضيتَ فما في العيشِ من وَطَرِ
ومن الشعراء الذين تأثروا بالموت وذاقُوا مرارة العيش ومروا بالعديد من الاضطرابات أبو إسحاق الصابي الذي أصبح يتمنى الموت ويرى فيه الخلاص والراحة حيث يقول:
أخرج من نكبة وأدخل في
أخرى فنحسي بهن متصل
أنها سنة مؤكدة
لابد من أن تقيمها الدول
فالعيش مر كأنه صبر
والموت حلو كأنه عسل
وعندما يتعرض الشخص لمرض أو عاهة دائمة لا سبيل للشفاء منها يتمنى الموت والخلاص من هذه الحياة وهذا ما حصل مع سبط بن التعاويذي عندما أصبح ضرير فاقد للبصر، حيث كره الحياة بعد هذه العلة ومن أقوله في ذلك:
رمتني يد الأيام فيها بعائر
فبدلت منها ظلمة وضياء
ورنَّق عيشي واستحالت إلى القذى
مشاربه عن رقة وصفاء
جفاء من الأيام بعد مودة
وسلب من الأيام غبٌّ عطاء
تنكرت الدنيا علي فنفقت
إلى سهام الغدر بعد وفاء
فأضحت وقد كانت إليَّ حبيبة
وأبغض ما فيها إلي بقائي
ونراه في شيخوخته قد تملكه التشاؤم وجعله يزهد في حياته وقام على تشبيهها بالملك المتسلط وراح يبكي على الدنيا واقتراب الموت منه حيث يقول:
أذكرتني عصر الشباب بها
ومواسم الأفراح والجدل
أيام لا أرعى لعائلة
سمعي ولا أصغي إلى العذل
فاليوم عود الدهر مخطوب
ذاوٍ وشمس العمر في الطفل
لم يبقى لي في لذة أربٌ
لنا من زحام الهم في شغل
وفي النهاية نستنتج إن أهل الشعر في العهد العباسي قد تأثروا بالموت وعمدوا تصويره في مقطوعاتهم فنرى منهم من سلَّم بهذه الحقيقة ومنهم من أصابه التشاؤم، ونراهم بعد اللهو والعبث يتوجهون إلى زهد الحياة في آخر أيامهم ويسيطر عليهم الندم طالبين العفو من الله سبحانه وتعالى، ومن أبرز هؤلاء الشعراء نذكر أبو العتاهية والطغرائي وغيرهم.