تاريخ الطباعة

اقرأ في هذا المقال


نشأة الطباعة وتطورها:

عاش الإنسان منذ القدم يسجل تراثه الثقافي الذي يزداد يومًا بعد يوم ويتراكم كمَّاً ونوعًا.

وبدون إبداعاته على أوراق البردي والألواح الطينية وعلى الحجارة أو على جلود الحيوانات والعظام وسعف النخيل…

ثمَّ تطوَّر فتوصَّل إلى الورق فاستخدم الأجسام الحادَّة في الكتابة على الحجر أو الألواح الطينية.

مُستخدماً عددًا من الأقلام المُتنوعة في الكتابة على جلود الحيوانات أو العظام أو سعف النخل.

وقد ازدادت رغبة الإنسان إلى تسجيل وحفظ تراثه الثقافي والفني والأدبي وحفظ معتقداته الدينية وطقوس عباداته.

وحفظ إنجازاته المُتعدِّدة في مختلف الميادين. ولم يكتف بذلك لكون هذه الأدوات لم تلبي طموحاته وحاجاته.

أو تستوعب غزارة النتاج الفكري والعلمي والفني الذي تكاثر وتنوَّع تنوعًا مذهلًا كماً ونوعًا.

ونتيجة لما تقدم دفعته هذه الحاجة إلى البحث عن وسائل أفضل وأقدرعلى نقل هذا النشاط الإنساني الذي يزداد مع مرور الأيام.

فقد ظهرت بدايات الاختراع الجديد من الشرق، وجاء في بداية الأمر على شكل أختام منقوشة.

تختم به الألواح الطينية للتصديق عليها، فقد ثبت أنَّ الملك حمورابي كان يستعمل خاتمًا اسطواني الشكل.

صُنع من طين ليختم به رسائله، وقد ظلَّ استخدام الأختام بعد ذلك عبر الأزمنة الماضية وحتى يومنا هذا.

ثمَّ بدأت الطباعة في الطين عندما ظهرت الأختام بها ما بين القرنين الخامس والسادس الميلاديين.

وكانت تُستخدم لتُؤكد صحَِّة الوثائق أو إضفاء الصفة الرسمية عليها. ومنها انتقلوا إلى استخدام الصفائح الخشبية لطبع الكُتب.

فقد استعمل سكان بلاد ما بين النهرين قوالب نُقشت عليها النقوش والزخارف، وكانت هذه القوالب المنقوشة تُضغط على مادة الطين.

وهي طرية فينتقل ما عليها من كتابات أو نقوش أو زخارف إلى الألواح الطينية، وكانت تترك هذه الألواح حتى تجف.

ثمَّ تُطلى وتُدهن الأقسام البارزة منها بالحبر ،الكتابة أو النقوش أو الزخارف البارزة عليها.

وكان القدماء المصريين يستخدمون الألواح الخشبية أيضًا، لهذا الغرض بعد أن يتم نقش ما يراد نقشه على هذه الألواح.

بعد طلائها بالحبر ومن هنا يمكن القول أنَّ هذه الطريقة كانت هي الخطوة الهامَّة والأولى

في اتجاه الطّباعة التي أسَّسها الصينيون القدماء ثمَّ جاء (غوتمبرج) في القرن الخامس عشر فأخذ المبدأ نفسه وطوره.

فإذا كان سكان بلاد ما بين النهرين وسكان وادي النيل القدماء قد اكتشفوا الأختام والألواح الخشبية المنقوشة،

فإنَّ قدماء الصينيين قد اكتشفوا الحروف المُنفصلة في الطباعة وكانوا أول من صنعها من مادَّة الطين.

وقد انتقلت هذه الطريقة إلى بلاد فارس- إيران وسورية ثمَّ الأندلس ومنها إلى أوروبا.

اختراع يوهان غوتمبرج:

فقد اخترع (غوتمبرج) المبدأ الأساسي للطباعة عن الصينيين عندما استبدل الأحرف
الطينية بالأحرف المعدنية، فكان أول مُخترع للحروف المعدنية المُتفرقة.

وقد استطاع هذا المخترع أنْ ينقل العالم كله، بفضل اختراعه هذا إلى مرحلة جديدة من مراحل التطور والازدهار الثقافي والحضاري.

علمًا أنَّ الهولنديين يؤكدون أنَّ لورنس كوستر وهو هولندي قد سبق يوهان غوتمبرغ إلى اختراعه.

وأنَّه قام بعمل الحروف المُتفرقة من الخشب عام (1432) ثمَّ أتبعها بأُخرى الرَّصاص والقصدير.

وفي عام (770م) طُبع من تعاليم بوذا مليون نُسخة بالطريقة نفسها ولا يزال عدد هذه النُسَخ محفوظًا في متحف البريطاني بلندن.

كما اكتشف في صحراء تراكستان أول كتاب مُتكامل طُبع بطريقة الألواح الخشبية، ويرجع تاريخ طباعته إلى عام(868م).

كما أثرت صناعة وطباعة أوراق اللعب في الصين في تطور الطباعة اللوحية وانتشارها.

فانتشر هذا النوع من الطباعة من الصين وكوريا شرقًا إلى بلاد العرب وأوروبا غربًا.

كما عُثر في مصر بالقرب من الفيوم على مجموعات كبيرة من الوثائق الورقية المطبوعة بطريقة الحفر على الخشب.

تحمل آيات قرآنية وأحاديث وأدعية وهي مُؤرخة ما بين عام(900-1350).

إلَّا أنَّه من غير المؤكد أنَّ هذا الأسلوب الطباعي جاء إلى مصر.

من العراق انتقل إلى أوروبا عبر ميناءي جنوة والبندقية بإيطاليا، وقد اخترع الصينيون لأول مرَّة الحروف المُنفصلة.

وهي عبارة عن قطع من الحروف المُنفردة المصنوعة من مادة البورسلين ليطبعوا شكلًا ما.

ثمَّ تُفكَّك لتُستخدم مرَّة أخرى في طباعة أشكال أُخرى، فقد اخترعت الحروف المُتحركة
واستخدمت في الطباعة في الصين في وقت يسبق اختراع جوتمبرغ بنحو(400 سنة)
إلّا أنَّه لم يكتب لها النجاح وسرعة الانتشار.

بسبب ما تتسم به طبيعة الحروف الصينية من تعقيد إضافة إلى الأعداد الضخمة من الحروف التي تحتاجها عملية الطباعة.

كما ظهرت في كوريا عام (1455م) واليابان عام (1596م).

إلّا أنَّ تلك البلاد عجزت عن نشر هذا الاختراع وتطويره لأسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية.

وبالرُّغم من أنَّ اختراع الطباعة المُتحركة بأحرف معدنية وصل أوروبا بعد اختراعها في الشرق الأقصى بزمن طويل.

إلَّا أنَّه لا يوجد أي دليل يثبت أنَّ دول أوروبا قد أخذت هذا الاختراع عن تلك البلاد.

ما هي الأسباب التي أدَّت إلى نجاح اختراع الطباعة:

  • توفر المواد التي يستعملها المخترع.
  • حاجة المجتمع إلى هذا الاختراع.
  • سهولة استخدام الحروف اللاتينية.

ونتيجة لهذه الأسباب كان الوضع مُهيئًا لنجاح اختراع (يوهان جوتمبرغ) للطباعة الحديثة عام(1440م).

الذي قدَّم للبشرية أعظم خدمة، ممّا نتج عنه هذا الكم الهائل من الكُتب والمطبوعات
المُنتشرة في شتَّى بلاد المعمورة، وبلغاتها المختلفة وفي جميع حقول المعرفة الإنسانية
وبلغاتها المختلفة.

ويشعر الإنسان في هذا العصر بأهمية الطباعة البالغة في كل مجالات حياتة، وفي كل مظهر حضاري بدءًا بأبسطه وانتهاءًا بأعقده،

ومن المؤكد أنَّ تاريخ مثل هذا العصر الهام في حياتنا طويلًا وحافلًا حيث تعود بداياته إلى ما وضعه المتحضرون

الأُوَّل قواعده وأسسه لحضارة الإنسان، وقلَّما يوجد في هذه الأخيرة، فظهر بإمكانه
إثبات كون الحضارة بوتقة، وانصهار أفكار الشعوب ونقطة التقاء إبداعات أبنائها كما
تفعل الطباعة وتبين ذلك.

فإهتداء الإنسان للكتابة يشكل قفزة كبيرة ونوعية في مسار تطوره الحضاري وسرعان ما تحول الكتاب إلى عنصر هام.

في تحريك ذلك التطور، باعتباره كنز الفكر الإنساني الذي يستحيل تحقيق ما توصلت إليه البشرية اليوم من دونه.

فأصبح من المُحتم أن تتعرض دائرة الحضارة هذه إلى صقل مُستمر وتطوير دائب.
فإذا كان الكتاب الواحد من كُتب مكتبة آشور بانيبال، يتكون من مئات الأرقام الطينية
ويحتاج نقله إلى عدَّة عربات، فإنَّ حفيد ذلك العملاق قد انكمش حجمًا.

وتطور نوعًا ما بحيث أصبح بالإمكان، وضع اثنين في علبة صغيرة.

وفي عام(1896) طُبع في برلين قاموس نادر يتألف من(500 صفحة).

تضم الواحدة منها (27 سطرًا) ويضُم السطر(70 حرفًا) في حين يبلغ حجمه الكلي (32×24×8 مليمترات) فقط.

ومن هنا فقد ظلَّ قصب السبق في تطوير هذه الصنعة المهمة محصورًا بسيد الشرقين على مدى قرون طويلة.

فهم أول من اخترعوا الكتابة واهتدوا إلى صنع الكُتب وتأسيس المكتبات، ثمَّ اكتشفوا عناصر جديدة تفاعلت مع إبداعاتهم السابقة.

تمهد الطريق أكثرفأكثر لميلاد الطباعة، فقد ظهرت صناعة الورق في الشرق كذلك، وقد تطورت على أيدي أبنائه.

منذ أن عرف المصريون الأوائل كيف يصنعون ورق البردي وبعد أن اهتدى جيرانهم في المئة الأولى للميلاد.

إلى صنع أول أشكال الورق الحديث، ومع أنَّ هذا النوع من الورق قد انتشر في العالم الإسلامي ببطء.

غير أنَّ الأوروبين لم يتعلموا أسرار صنعه من الشرقيين إلّا بعد مرور ما لا يقل عن
عشرة قرون.

فمع تطور الكتابة وتقدُّم صناعة الورق وبعد أن ازدادت سرعة التقدم الحضاري.
اشتدت الحاجة إلى توسُّع نطاق تداول الكتب.

والتفُنُّن في إخراجها لتأتي في توافق مع ما انتساب ذوق الإنسان من تحول كبير وملموس ومستمر.

وكان من الطبيعي أن تأتي البادرة الجديدة من الشرق أيضًا.

وذلك بحكم توفر مُستلزماتها، وهكذا شهد الشرق العريق ميلاد أول أشكال الطباعة.

فمن هنا اهتدى الصينيون في القرن السادس الميلادي إلى الطبع بواسطة الحفر على الألواح أو قوالب خشبية.

وسرعان ما أصبح بالإمكان أعادة طبع عدَّة آلاف من نسخ بواسطة القالب الواحد.
وتوجد اليوم في بعض المكتبات العالمية.

مخطوطات طينية مطبوعة بهذه الطريقة مثبت في بعضها تواريخ مضبوطة تعود في
تاريخها إلى القرن التاسع.

وتشير تلك المخطوطات بجلاء إلى درجة كبيرة من الكمال الفني للطباعة الصينية
بواسطة القوالب الخشبية.

وتؤكد العديد من المصادر الموثوقة على أنَّ الصينيين هم الذين خطوا بدورهم الخطوة الهامة

التالية على طريق تطوُّر الطباعة الموثوقة.

عن طريق تطور الطباعة باختراعهم. في وقت لاحق (أغلب الظن في أواخر القرن الحادي عشر)

للحروف المتحركة التي كانوا يصنعونها في بداية الأمر من الصلصال، ومن ثمَّ فيها بعد من المعدن.

وعُثر في أحد الكهوف الطينية كما تُشير المصادر على حروف مُتحركة مصنوعة من الخشب.

فتوقف هنا دور الشرقين في تطور هذا الاختراع العظيم ممّا نجم عنه عوامل مُحدَّدة فروت نهاية مؤسفة لبداية عظيمة.

فإنَّ استخدام الصينيين للحروف المتحركة لم يتخذ إطارًا محدودًا، لا سيما لأنَّ الطبع بها لم يستطع أن يحل محل الطبع.

بواسطة الألواح الخشبية التي كانت على توافق أكثر مع الكتابة الصينية لاعتمادها على حروف مركبة بدل الحروف الهجائية المُنفصلة.

كما أنَّ العالم الإسلامي بدأ يعيش مرحلة مدٌّ وجزر سياسي وحضاري فلم يستطع أخذ التقدم الصيني وتطوره.

وعندما جاء دور أوروبا الغربية التي بدأت تعيش مرحلة حاسمة جديدة في تاريخها تمخَّضت عن انحلال العلاقات الإقطاعية.

وميلاد الرأسمالية ممّا هيأ الظروف المُلائمة لانتقال الثقل الحضاري إليها.

فكانت نهضة وحركة الإصلاح الديني من المظاهر الفكرية المُهمَّة التي شهدتها القارَّة الأوروبية في بدايات عصرها الجديد.

التي تركت آثارًا مُباشرة عن ظهور و تطور الطباعة فيها فبعد أن بعث التراث الماضي كان يشكل منذ البداية واحدًا.

من أبرز خصائص النَّهضة ممّا دفع بالمفكرين إلى الاهتمام المتزايد بجميع
المخطوطات القديمة وإعادة استنساخها بأكبر عدد وأفضل شكل ممكن.

وعندما لجأ الأوروبيون مع بزوغ فجر النهضة إلى الطريقة الصينية للطبع بواسطة
الألواح الخشبية.

وفي الوقت نفسة حاول أعلام النهضة وأنصار الإصلاح الديني بالخروج على احتكار
الكنيسة الكاثوليكية وقساوستها للكتب الدينية.

بالعمل الجاد في سبيل نشرها على نطاق واسع حتى يبينوا للناس مدى ابتعاد البابوية عن القيم الأصيلة لديانتهم.

وكان ذلك يشكل مطلبًا مُلحًا لتحوُّل الكاثوليكية فعليًا إلى جزء متمم أساسي للنظام الإقطاعي.

القائم وأنَّ أي تغير جذري كان يتطلب فضح قيمها السائدة.
وبالطبع كان في وسع الكتاب أن يتحول إلى أداة فاعلة ومُؤثرة في هذا المجال.

علمًا بأنَّه كان في ذلك الزمن ثلث أفضل الأراضي الزراعية يعود إلى الكنيسة في العديد من الأقطار الأوروبية

ولم يختلف استغلال رجال الكنيسة للفلاحين، من أبشع أنواع الاستغلال الإقطاعي الأوروبي إنْ لم يكن أسوأ منه.

فمنذ أنْ أثبت دانتي اليبجيري(1265-1321) بمؤلفاتة وبشكل خاص في قصَّته الشعرية (الكوميديا الأهلية).

إمكانية تحول الُّلغات القومية إلى وسيلة للتعبير الفكري بدل الّلاتينية أو لغة الخواص اشتدت الحاجة إلى الكتب بشكل لم يسبق له مثيل.

وذلك لأنّها بدأت تأخذ طريقتها إلى العوام. فكان من مُتطلبات هذه العوامل مع غيرها.

تطوير وسائل نشر الفكر لتواكب المُهمات الإجتماعية الجديدة.

فأجرى الأوروبيون تحسينات ملموسة على الطبع بواسطة الألواح الخشبية، ثم حدثت مفاجأة كبرى قدمت للبشرية،

فائدة كبيرة ألا وهي اهتداء العالم الألماني يوحنا جوتنبرغ في عام(1445) إلى صنع
أول آلة طبع خشبية تعمل باليد.

وتُستخدم الحروف المُتحركة وبلغت طاقتها القصوى في طبع(100 صفحة) في الساعة الواحدة، ونتج عن هذا الشكل تطورًا نوعيًا هائلًا في عالم الطباعة.

وقد لقي جوتنبرغ صغوبات كثيرة في عمله هذا، الذي كلفه الجهد والمال والكثيرين حتى أصبح على وشك الإفلاس.

وذكر الدكتور كمال مظهر في بحثه “الطباعة عند جوتنبرغ” بأنّ ماكنة الطباعة التي وضعها جووتنبرغ لم تكن مُتكاملة.

وما كان بإمكانها أنْ تكون فإنّ مستوى ما بلغه التعدين آنذاك حال دون توفير المعادن ذات المقاومة العالية.

لتُصب الحروف الجيدة منها، مما كان يفرض إعادة سكبها لمرّات عدّة في حالة طبع نُسخ كثيرة منها لكتاب مطلوب ورائج.

لذا لم يضع الاختراع الجديد نهاية حاسمة للطبع بواسطة الألواح الخشبية التي بقيت شائعة ليس في معظم الأقطار الأوروبية.

فحسب بل في ألمانيا كذلك على مدى عقود أخرى، ولا سيما بالنسبة للمؤلفات التي كان الطلب عليها كبيرًا.

لأنّ طبعها بالطريقة القديمة كان أقل كلفة بغض النّظر عن صعوبة حفر وضع القوالب الخشبية.

فهذا كلّه لم ينقص من أهمية اختراع غوتنبرغ الذي يعتبر”من الذي يحدث مرَّة واحدة ولنْ يتكرر أبدًا”،

فهو وادي في داخله بذور التطور وقوة النّماء السريع، فقد أصبح بإمكان الطباعين تصحيح الأخطاء الواردة. في البروفات قبل المباشرة بالطبع بصورة نهائية.

ممّا أدَّى إلى تقليل الأخطاء في الكتب وإلى توحيد مضمون نُسخها المختلفة.

بينما يعتبر تباين النصوص في المخطوطات القديمة، مشكلة علمية يعاني منها المحققون والمؤرخون حتى اليوم.

ولا سيما أنَّ مثل هذا التباين غالبًا ما كان ينجم عن وجهة نظر المُستنسخ بحكم عواطفة الذاتية ومنطلقاتة الفكرية في تقييم الأشياء.

ولا بدَّ من أن نشير هنا في هذا المجال إلى أنَّ أصحاب المطابع الأوائل صنعوا حروفهم على نمط حروف المخطوطات التي كانوا ينقلون عنها.

حتى كان يصعب على غير عين المجرب الخبير أن تفرق بين ما كان مكتوبًا باليد وبين ما هو مطبوع.

ولكن سرعان ما اختفت هذه الظاهرة، ذلك لأنَّ التطرف في زخرفة الكتابة أدَّى إلى تعقيد هذه الأخيرة.

بشكل آخر غدت قراءة المخطوطات وغيرها أمرًا عسيرًا على غير أصحاب الثقافة الرفيعة.

فقد أدَّى اختراع الطباعة الحديثة إلى نتائج ثقافة عظيمة على الصعيد الأوروبي ثمَّ العالمي بسرعة ممّا أسهم كثيرًا في التقدُّم العلمي وبعث التراث وانتشار الأفكار الرائعة.

للنهضة الأوروبية وما تبعها عن فكر مُتحرِّر وفي تعميم الثقافة القومية وبلورة اللغة الأوروبية الموحدة لجميع الشعوب بالتتابع.

وسرعان ما تحول الاختراع الجديد إلى حافز معنوي كبير بل مادي للإقبال على التأليف بعد أن تحول السوق

إلى مكان توفر الكتب للجميع بدل من المكتبات الخاصَّة القليلة التي كان نطاق تداول محتوياتها محدودًا للغاية.

ولولا اختراع الطباعة لظلت الكتابة والقراءة والتعليم بشكل عام حكرًا على النخبة من الفئات الاجتماعية العليا ورجال الدين.
أصبحت كتب التعليم بفضل الطباعة في متداول أبناء الطبقات الفقيرة أيضًا.

وذلك نتيجة توافرها وبفضل رخص سعرها ممّا أدَّى إلى فتح باب المعرفة أمام العلماني ورجل الدين والكبير والصغير سواء بسواء.

ومن الجدير بالذكر هنا أنَّ كتاب قواعد اللغة اللاتينية للطلاب كان واحدًا من المؤلفات القليلة الأولى التي طبعها غوتنبرغ.

وربَّما هو الوحيد الذي أعاد طبعه لعدَّة مرَّات على الجهاز الذي اخترعه.

وبالرَّغم من أنَّ غوتنبرغ وشركاه حاولوا الاحتفاظ بسر الاختراع الجديد أطول فترة ممكنة إلّا أنَّه سرعان ما انتشر في ألمانيا وأقطار أوروبا الأخرى وعلى رأسها مهد النهضة إيطاليا التي ساهم أبناؤها بجهد في تطويره وكذلك لعب الألمان دوررًا بارزًا في نقل الطباعة الحديثة إلى الأقطار الأوروبية المجاورة.

ومن هنا يقول الدكتور شعبان خليفة في كتابه الببليوغرافيا أو علم الكتاب بأنَّه لا يمكننا القول على وجه القطع.

متى بدأت عملية الطبع بالحروف المتحركة ولا من بدأها؟ وذلك لأنَّها ظلَّت تمارس في الخفاء حتمًا فترة من الزمن.

ومن المعروف أنَّ صكَّ العملات المعدنية عن طريق قوالب تُصَبُّ فيها، كان عملًا مألوفًا في العراق القديم ومصرالقديمة.

فمن هنا فلا نستطيع القول بأنَّ سبك الحروف تمَّ بين يوم وليلة أو أنَّه كان من اختراع شخص بعينه،

بل كان حركة جماعية ولا يمكن أن تتم في سرية مطلقة.
فلقد كانت القوالب التي تسبك فيها الحروف مصنوعة من النحاس والرَّصاص.

وللأسف لم تصلنا نماذج منها ولا نعرف حتى الآن أشكالها.

وبناءً على ما تقدم لم يمض أكثرمن نصف قرن حتى وصل مجموع ما طُبع من كتب بواسطة الحروف المتحركة ، في أوروبا حوالي 30 ألف كتاب وبلغ معدل المطبوع من الكتاب الواحد 300 نسخة.

بمعنى أنَّ مجموع ما طبع من الكتب خلال أقل من ستَّة عقود كان 9 ملايين نسخة ممّا يؤكد بأنهَّ ليس عملًا فرديًا، بالمعنى المقصود.

وشكَّل هذا العمل بداية هامَّة لأساس مادي عظيم للتطور العلمي والثقافي الهائل الذي غير وجهة العالم بشكل سريع.

فلا غرو أن اعتبر المؤرخون أنَّ اخترع غوتنبرغ أعظم مكسب ثقافي قدَّمه الشعب الألماني للبشرية في القرن الخامس عشر.

فمن هنا توجَّه الأوروبيون إلى استخدام الطباعة الحديثة في وقت مبكر لنشر الأدب القومي وتراثهم القديم.

فمن أوائل الكتب التي طبعها غوتنبرغ كما يذكر الدكتور كمال مظهر أحمد ملحمة شعرية ألمانية وهذا كما جرى في عام (1464)

حيث طبع أحد مؤلفاتة الكاتب الروماني والمعروف بشبيشرون (43-106ق.م) ولكن إذا كان جوتنبرغ قد جمع في طبعه للكتب بين الاتجاهات المختلفة.

فإنَّ وليام كالتسون الإنجليزي ما إنْ أسَّس عام(1477) أول مطبعة حديثة في بلاده حتى بادر إلى طبع الكتب التاريخية والأدبية وكتب التراث.

التي تفضح الواقع المتخلف من خلال تجسيد الماضي التليد.

فكان من الطبيعي أن يطغى هذا الاتجاه بسرعة بحث لم يمض وقت طويل على اختراع الطباعة الحديثة.

عندما بوشر بطبع الكتب الأدبية والفلسفة التي احتوت مضامينها على أفكار متقدمة راديكالية بالنسبة لعصرها.

من قبيل مؤلفات رواد النهضة الطليان دانتي وبترارك وبوكاشيو وآرازمس الروتردامي وفون هوتن الألماني وتوماس ورامبيليه الفرنسي وغيرهم.

ممّا تحوَّل إلى عنصر محرك جديد في الحياة السياسية فضح بشكل مؤثر وعلى نطاق واسع عيوب المؤسسات الإقطاعية القائمة آنذاك.

وكان للبروتستانت دورهم البارز في هاذا المجال، فقد تطورت أهمية اختراع الطباعة الحديثة من خلال الحملة الفكرية الواسعة.

التي أخذ زعماؤها على تعرية البابوية على أوسع نطاق ممكن،
ومن هنا فإنَّ الطباعة لعبت دورًا مهمًا، في نشر شعر لوثر الملتهب في كل أرجاء ألمانيا حسب تعبير المؤرخ الإنجليزي هربرت فيشر.

وممّا سلف ذكره يؤكد لنا بأنَّه لم ترحب الأوساط المحافظة، وعلى رأسها الكنيسة الكاثوليكية بالاختراع الجديد منذ ميلاده.

فقد وقفت الكنيسة ضدَّه ونشرت بيانات وشعارات خاصَّة تدين خطيئة غوتنبرغ وتندد بالذين يسيرون على نهجة.

لأنَّها كانت تخشى انتشار الكتاب المقدَّس على نطاق واسع وبمعزل عن إشرافها المباشر ممّا كان يعطي الجميع إمكانية فهم مضامينه بأسلوب يختلف عن التفسيرات والتعاليم الكنيسة.

وفعلًا كان الإنجيل أول كتاب طبعه جوتنبرغ بواسطة جهازه المُخترَع، ولم يكن مجرد صدفة أن صدرت خلال أول خمسين سنة من اختراع الطباعة، مئة طبعة من الأنجيل في ألمانيا وحدها.

وكان من الطبيعي أيضًا أن ترتاح الكنيسة الكاثوليكية والأوساط الإقطاعية، من انتشار الكتب ذات المضامين المتحرِّرة.

لذا توجهت البابوية منذ عام(1559) إلى اتباع طريقة جديدة.

وهي إصدار قوائم دورية تفضي بتحريم كتب مُعينة تضم خيرة ما أنتج الفكر الإنساني مثل: إبداعيات أعلام النهضة.

ومؤلفات مؤلفين محدثين من أمثال فولتيرهوبس وديكارت وغيرهم، من كبار الفلاسفة والمفكريين والأدباء المتحررين.

ولم تقتصر القوائم على تحرير الكتب التي تمس الكنيسة الكاثوليكية بصورة مباشرة بل إنَّها تضم أعداد كبيرة من شتَّى علوم المعرفة.

وعندما رحب أنصار التغير والتقدم بالمخترع الجديد مقدرين ذلك بشكل صحيح على ما سيكون له من دور إيجابي في حياة الإنسان.

وتبناه رجال النهضة وزعماء حركة الإصلاح الديني الذين كانوا يمثلون ذروة الفكر المتطور في عصرهم.

ولم يكتف السابقون منهم بإرسال أنتاجهم إلى المطابع الحديثة بل، بعضهم قام بتأسيس مطابع خاصّة بهم.

وكرَّسوا جميع طاقاتهم لخدمة نشر أفكارهم فإنَّ بعض المطابع الأوروبية المبكرة أصدرت مجلدات عديدة، لإبراز أعلام النهضة وكبار رجال الفكر الأقدمين من أمثال أرسطو وأفلاطون وغيرهم.

فبعد أن تحول بعض المفكرين في وقت مبكر إلى ضحايا مباشرين للاختراع الجدبد.

وكان من أبرزهم العالم اللغوي الفرنسي دولييه (1509-1546) الذي أسَّس مطبعة له في ليون وطبع عشرات الكتب من مؤلفاته.

وعُرف دولييه بدفاعه الثابت عن حرية الفكر وبعطفه على الأوساط والاجتماعية الفقيرة.

ويقال إنَّه وقف إلى جانب اضراب عمّال المطابع الذي وقع في ليون وباريس وعمل على تلبية مطالبهم بالنسبة لمطبعته.

وكان من الطبيعي جدًا أن تشير مواقف دولييه حقد الأوساط المحافظة ضده فألقي القبض عليه وأرسل مخفورًا.

إلى باريس حيث نفذ فيه حكم الموت حرقًا في بداية آب(1546) فأصبح بذلك واحدًا من أوائل الطباعة الحرة.

إلّا أنَّه عمل عشاق الظلام على حجب الشمس بالغربال وإرجاع عقارب الساعة إلى الخلف.
والدليل المعبر الذي يستحق الذكر هنا، أنَّ ذلك النصب التذكاري الشامخ لدولييه الذي رفع عنه الستار في عام(1889) في احتفال كبير ومهيب بنفس المكان.

حيث أتت فيه النيران على جسده دون ، أن تتمكن من فكره ، وبهذا الأسلوب الجديد.

تحوَّل موقع مأساة عام(1546) إلى ساحة جميلة بباريس يزينها تمثال يروي بصَمت قصَّة رائعة وعظيمة للأجيال.

ولعلَّه من المفيد ذكره كذلك أن أشير إلى حقيقة أخرى في هذا المجال وهي أنَّ جمعية الآباء اليسوعيين.

التي تعتبر من أخلص المؤسَّسات للكنيسة الكاثوليكية تمتلك اليوم العشرات من أكثر المطابع في العالم وتطبع ما لا يقل عن(1300) جريدة ومجلة.

تصدر في أكثر من(50) لغة ويبلغ مجموع ما يطبع منها حوالي(150) مليون نسخة.
فاختراع الطباعة، غير الكثير من حياة الإنسان ممّا جعله بحاجة إلى إشعاعاتها في كل مكان.
وعلى هذا الأساس لم يكن في مستطاع تأثيرات هذا الاختراع العظيم وإلهام في حياة البشرية.

أن يبقى داخل القارَّة الأوروبية فقد بدأت آثاره تنتشر بالتدريج أولًا ثمَّ بسرعة كبيرة تشمل شعوب جميع القارات.

فلم تمض سوى عقود قليلة على إبداعات هذا الاختراع عندما تمَّ في إيطاليا في بداية القرن السادس عشر.

وضعت حروف الهجاء العربية التي استخدمت في طبع مؤلفات بعض علماء العالم الإسلامي فمنهم ابن سينا.

وهنا حاولت الكنيسة تكريس الطباعة لخدمة أعمالهم التبشيرية في الشرق كما في الغرب.


شارك المقالة: