سبب النزول:
«أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يناجيهم ويدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم. فقال: يا رسول الله، أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى، وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت. فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول: «هل لك من حاجة، فالنبي صلى الله عليه احتقاراً له، ولا طعماً لما في أيدي هؤلاء الكبراء من مالٍ وجاةٍ ومنصبٍ – حاشاه – وإنّما طمع في إسلامهم هدايتهم.
﴿عَبَسَ وَتَوَلَّىٰۤ﴾ [عبس ١] والمٌخاطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: ﴿وَمَا یُدۡرِیكَ لَعَلَّهُۥ یَزَّكَّىٰۤ﴾ صدق الله العظيم[عبس ٣] أي: وما يدريك لعلَّه يسمع منك شيئاً من أوامر هذا الشرع الكريم، ونواهيه وآدابه، فيحصل له التزكية.
قوله تعالى: ﴿أَوۡ یَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكۡرَىٰۤ﴾ صدق الله العظيم[عبس ٤] أو يتعظ فتنفعه الذكرى، قال العلماء: في الآيات عتاب من الله جل جلاله لحبيبه صلى الله عليه وسلم، ولكنه أجمل وأرق عتاب، لأنّه ما قال له عبست وتوليت بصيغة الخطاب، بل قال عبس وتولى، بصيغة الغائب تعظيماً له صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير: ومن هاهنا أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يخص بالإنذار أحدا، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار. ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
وهذا كما الله تعالى لنبيه الكريم : ﴿وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَیۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِیدُ زِینَةَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطࣰا﴾ صدق الله العظيم[الكهف ٢٨] أي: لا تصرف بصرك عنهم، واجعل عينيك عليهم، وتفقد أحوالهم، وتعاهدهم، وجاء عن سلمان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال ” الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا والممات “.
وفي صحيح البخاري قصة هرقل مع أبي سفيان، وفيها: قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وسيدنا نوح عليه السلام قالوا له قومه: ﴿فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرࣰا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِینَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِیَ ٱلرَّأۡیِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَیۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَـٰذِبِینَ﴾ صدق الله العظيم[هود ٢٧] والضعفاء والفقراء هم أسبق إلى الخير من الأغنياء في الغالب.
قوله تعالى: ﴿أَمَّا مَنِ ٱسۡتَغۡنَىٰ﴾ صدق الله العظيم[عبس ٥] يعني من استغنى بماله وجاهه وحسبه ونسبه، فأنت له تصدى: وتُقبل عليه.
قوله تعالى: (وَأَمَّا مَن جَاۤءَكَ یَسۡعَىٰ (٨) وَهُوَ یَخۡشَىٰ (٩) فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ) صدق الله العظيم، أي: قاصداً لك، ليهتدي بما تقول.
(وهو يخشى) هذا من تمام تشريف الله لابن أم مكتوم، ومن تمام تزكية الله له أن شهد له ممّن يخشى الله، ومن فضائل ابن مكتوم رضي الله عنه – أيضاً – أنه أنزلت فيه آية، وهي قوله تعالى : ﴿لَّا یَسۡتَوِی ٱلۡقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ غَیۡرُ أُو۟لِی ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَ ٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَـٰهِدِینَ بِأَمۡوَ ٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَـٰعِدِینَ دَرَجَةࣰۚ وَكُلࣰّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَـٰهِدِینَ عَلَى ٱلۡقَـٰعِدِینَ أَجۡرًا عَظِیمࣰا﴾ صدق الله العظيم [النساء ٩٥] وجاء عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أملى عليه (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وفخذه على فخذي (غير أولي الضرر)، وكان يحمل راية المسلمين يوم القادسية، وقد استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم مرتين على المدينة، في غزوتين غزاهما يُصلي بأهلها.
قال تعالى: (كَلَّاۤ إِنَّهَا تَذۡكِرَةࣱ (١١)) صدق الله العظيم، ( كلا) ردع وزجر، أي كلا، لا تفعل هذا أبداً، (تذكره) أي الموعظة التي وعظناك بها يا محمد، هي تذكرة لك ولغيرك.
قال تعالى: (فِی صُحُفࣲ مُّكَرَّمَةࣲ (١٣) مَّرۡفُوعَةࣲ مُّطَهَّرَةِۭ (١٤) بِأَیۡدِی سَفَرَةࣲ (١٥) كِرَامِۭ بَرَرَةࣲ) صدق الله العظيم، هذه الآية بُشرى لصاحب القرآن، وجاء السيدة عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران، وسُميت الملائكة سفرةً لأنّهم سفراء بين الله تعالى وبين عباده، (كِرَامِۭ بَرَرَةࣲ) أي بارين في طاعة الله تعالى دائماً.
قوله تعالى: ﴿قُتِلَ ٱلۡإِنسَـٰنُ مَاۤ أَكۡفَرَهُۥ﴾ صدق الله العظيم[عبس ١٧] أي: لُعن، والمعنى: لُعن الإنسان ما أشد كفره، وقيل أيضاً: أي ما الذي جعله يكفر، وهو يرى آلاء الله عليه تترا.
قوله تعالى: ﴿مِنۡ أَیِّ شَیۡءٍ خَلَقَهُۥ﴾ صدق الله العظيم[عبس ١٨] هنا يُذكر الله عباده بنعمه عليهم، وبأصل خلقتهم ﴿أَلَمۡ نَخۡلُقكُّم مِّن مَّاۤءࣲ مَّهِینࣲ (٢٠) فَجَعَلۡنَـٰهُ فِی قَرَارࣲ مَّكِینٍ (٢١) إِلَىٰ قَدَرࣲ مَّعۡلُومࣲ (٢٢) فَقَدَرۡنَا فَنِعۡمَ ٱلۡقَـٰدِرُونَ (٢٣)﴾ صدق الله العظيم،المرسلات، ثم قال ﴿مِن نُّطۡفَةٍ خَلَقَهُۥ فَقَدَّرَهُۥ﴾ صدق الله العظيم[عبس ١٩].
قال تعالى: ﴿ثُمَّ ٱلسَّبِیلَ یَسَّرَهُۥ﴾ صدق الله العظيم[عبس ٢٠] يعني: خروجه من بطنِ أمه يسره له، وقيل: يسر له طرق الهدى.
قوله تعالى: (ثُمَّ أَمَاتَهُۥ فَأَقۡبَرَهُۥ (٢١)﴾ أي ثم أماته بعد انقضاء أجله، فأقبره: أي جعل له قبراً يُقبر فيه، وهذه نعمة عظيمة، وهنا فائدة، وهي أنّ الإنسان تعلم الدفن من الغراب، قال الله في سورة المائدة، قال تعالى: ﴿فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابࣰا یَبۡحَثُ فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیُرِیَهُۥ كَیۡفَ یُوَ ٰرِی سَوۡءَةَ أَخِیهِۚ قَالَ یَـٰوَیۡلَتَىٰۤ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَـٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَ ٰرِیَ سَوۡءَةَ أَخِیۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِینَ﴾ [المائدة ٣١].
قوله تعالى: (ثُمَّ إِذَا شَاۤءَ أَنشَرَهُۥ (٢٢) كَلَّا لَمَّا یَقۡضِ مَاۤ أَمَرَهُۥ (٢٣)) صدق الله العظيم، أي ثم إذا شاء الله البعث والنشور أنشره، أي بعث العبادَ من قبورهم للعرض والحساب.
قوله تعالى: ﴿وَعِنَبࣰا وَقَضۡبࣰا﴾ صدق الله العظيم[عبس ٢٨] أي وفاكهة يتفكهون بها ويستلذون، ومعنى (قضبا) أي طعاماً للحيوان.
قوله تعالى: ﴿وَفَـٰكِهَةࣰ وَأَبࣰّا﴾ صدق الله العظيم [عبس ٣١] عن إبراهيم التيمي قال: ” سئل أبو بكر الصديق عن الأب ما هو فقال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ” (وأبا): هو ما تأكله البهائم من العُشب والنبات.