اقرأ في هذا المقال
روى بن أبي الدُّنيا بإسنادهِ عن عليّ بن أبي طالب_ كرّم الله وجهه_، أنّهُ قال:” خياركُم كُلّ مُفَتَّنٍ توّاب؛ قيل: فإذا عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: فإنْ عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل: فَإنْ عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل: حتى متى؟ قال: جتى يكون الشيطان هو المَحسور.
الذّنوب قَدرٌ واقع لا بُدَّ منه، لأنَّ الأرض مليئة بأسباب الذّنب، من شيطانٍ لا همَّ له إلّا غواية البشر والقعود لهم بكلّ صراط؛ ونفسٍ أمّأرو بالسوء، وهوىً مُضلّ عن سبيل الله. فمهما اتّخذَ الإنسان الحيطة والحذر من الذنوب، فإنّهُ غير سالم منها؛ لأنّها قَدرٌ واقع لا يُمكن دفعها بالكُلّية مهما اتّخذنا من أسبابِ الحِيطة. فالذنوب من قَدرِ الله تعالى، وكلّ إنسان مكتوب عليه حظّهُ منها، كما كُتِبَ عليه حظّه من المرض.
لذلك قال تعالى:” الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ”؛ فقال طاووس_ رحمه الله_:” ما رأيتُ أشبهَ باللَّمَم ممَّا قال أبو هريرة_ رضي الله عنه_، فيما رواهُ عن النبي_ صلى الله عليه وسلم_ أنّه قال:” إنَّ الله كتب على ابن آدم حظّهُ من الزِّنا، أدركَ ذلك لا مَحالة؛ فزِنا العين النّظر، وزنا اللّسان النُّطق، والنَّطق تمنّي وتشتهي، والفرجُ يُصدّق ذلك أو يُكذّبهُ”. رواه البخاري
ولكن ذلك لا يعني التّهاون والتراخي مع الذنوب وركوبها، في كُلّ خاطرةٍ وسانحة، بدعوى أنّها قَدرٌ وواقع لا مَفرَّ منه. وكما أنَّ للمرض علاجاً، فكذلك للذَّنب علاجاً، ولأنَّ المرض إذا تُركَ بدون علاج تَفاقمَ وأهلكَ البدن، وكذلك الذّنب إذا تُركَ بدون علاج تفاقَمَ وأهلكَ الرّوح، وهناك الرّوح أشدّ من هلاك البَدن.
والشَّرع حين يَذكر أنَّ الذّنب حقيقة مقدّرة على البشر، لا يَفوتهُ أنْ يذكر فضل المُدافعينَ لهُ والمُتَحامينَ منه.
لذلك يقول عليه الصلاة والسلام:” كلّ بني آدمَ خطّاء، وخير الخطّائين التّوابون”.
وجآء في الحديث الذي رواه ابن عباس_ رضي الله عنهما_، عن النبي_ صلى الله عليه وسلم_ أنّهُ قال:” ما من عبدٍ مؤمنٍ إلّا ولهُ ذنبٌ يعتادهُ الفَينة بعدَ الفَينَة، أو ذَنبٌ هو مُقيمٌ عليه لا يُفارقهُ حتى يُفارق الدّنيا، إنَّ المؤمن خُلِقَ مُفَتَّناً توّاباً نَسيَّاً؛ إذا ذُكِّرَ ذَكَر”. رواه الطبراني
وهذا منهج إسلاميٌّ إيمانيّ، يمنحُ العَاصِين الفرصة للعودة مرّة أخرى إلى رحاب الطاعة، ويُغلق دونهم أبواب اليأس، ويزرع الأمل في نفوسهم.
فعن أبي بكرٍ أنّهُ قال: سمعت رسول الله_ صلى الله عليه وسلم_ يقول:” ما من عبدٍ يُذنبُ ذنباً فيتوضأ فيُحسن الطّهور، ثمَّ يقوم فيصلّي ركعتين، ثمَّ يستغفر الله بذلك الذَّنب، إلّا غفرَ الله له.( صحيح الإمام أحمد).
ولهذا كان النبي_ صلى الله عليه وسلم_، مع سلامته من الذّنوب، يكثر من الاستغفار، وكان يُوجّهنَا ويقول لنا:” سدّدوا وقاربوا وأبشروا، واعلموا أنّه لن يدخل الجنّة أحدٌ بعملهِ، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله، قال: ولا أنا؛ إلّة أنْ يتَغمّدني الله بمغفرةٍ ورحمة”. فكلام النبؤ فيه معنىً لطيف يقطع الطّمع على المؤمن أنْ يبلغ حقيقة التَّديّن التّامة، والقيام بحقوق الله تعالى؛ بل المُطالبة أنْ يُسدّد العبد وأنْ يُقَارب، فكأنَّ الإصابة غير ممكنة، ولكن كُلّما كان سهم العبد أقرب إلى الإصابة، فهو أقرب إلى السَّلامة.