دروس وعبر من سورة الضحى

اقرأ في هذا المقال


السورة:

﴿وَٱلضُّحَىٰ (١) وَٱلَّیۡلِ إِذَا سَجَىٰ (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (٣) وَلَلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرࣱ لَّكَ مِنَ ٱلۡأُولَىٰ (٤) وَلَسَوۡفَ یُعۡطِیكَ رَبُّكَ فَتَرۡضَىٰۤ (٥) أَلَمۡ یَجِدۡكَ یَتِیمࣰا فَـَٔاوَىٰ (٦) وَوَجَدَكَ ضَاۤلࣰّا فَهَدَىٰ (٧) وَوَجَدَكَ عَاۤىِٕلࣰا فَأَغۡنَىٰ (٨)﴾ [الضحى ١-٨]

إن أسلوب هذه السورة يرشد إلى أنّها نزلت في فترة الوحي تسلِّي النبي صلى اله عليه وسلم، وتذكر سابق من الله سبحانه وتعالى عليه، وقديم عنايته به، من الإيواء والهداية والإغناء، ما يصعب معها الترك البتة والغفلة.

وهو الذي تؤيده روايات سبب النزول، فقد اتفقت على أنّه حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم فترة في توالي الوحي فظنّ أو قيل: إنّ الله قد تركه وقلاه، مع اختلاف في الظَّانِّ أو القائل وليس يهُمنا التعيين والتسمية، ولا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم ظنّ بنفسه أو خاف، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شوق زائد وتطلع إلى الوحي، كما قال تعالى ﴿قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِی ٱلسَّمَاۤءِۖ ﴾ [البقرة ١٤٤] وكلُ شوق – كما قال الشيخ محمد عبده- يصحبه قلق، وكلُ قلق يشوبه خوف.

وقد جاء في الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم حزن لفتره الوحي حزناً، غدا منه مراراً كي يتردى من شاهق الجبال، ولكن كان يتمثل له الملَك ويخبره بأنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً.

وقع له ذلك بعد نزول سورة ( اقرأ) وقد كانت تطول هذه المدّة، فلا عجب أنّه خاف انقطاع هذه النعمة الجليلة، فالعبد إذا أنعم عليه السيد أو ملك جليل بنعمة جليلة: خاف في كل لحظة أن تُقطع عنه أو تسلب، إذا كان المُنعم قادراً عليه، والله سبحانه قادر ﴿وَلَىِٕن شِئۡنَا لَنَذۡهَبَنَّ بِٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِۦ عَلَیۡنَا وَكِیلًا﴾ [الإسراء ٨٦]

قال الزجاج : لو شئنا أي لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر.

فآتاه الله رحمة من عنده كان يشتاق إليه، ووعده ببقائه في المستقبل أيضاً، وأذهب عنه ما كان يجده ويخافه، وأقسم عليه بالضحى، وهو ضوء الشمس في شباب النهار، ثمّ بالليل إذا سجى- أي سكن- وأشار به الوحي إلى أنّ الوحي بمنزلة النهار، تقوى فيه الحياة الروحاني وتنمو وتشتغل، كما تقوى في النهار الحياة الجسمانية، وقد تعقبه الفترة كما يعقب النهار الليل، تستريح فيه القوى وتستعدُ النفوس لما يستقبله من العمل وتتوق له.

وفي ذلك حكمة بالغة وأصل عظيم من أصول التربية والتشويق لتلقي العلم وإعداد له ، وفي الحديث : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة (أي يعظنا غِباً) كراهة السآمة علينا.

وإلى هذه الحكمة أشار الله سبحانه وتعالى في قوله ﴿وَقُرۡءَانࣰا فَرَقۡنَـٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثࣲ وَنَزَّلۡنَـٰهُ تَنزِیلࣰا﴾ [الإسراء ١٠٦] وقد حكى الله سبحانه وتعالى عن الكفار قولهم وردَّ عليهم ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَیۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَـٰهُ تَرۡتِیلࣰا﴾ [الفرقان ٣٢].

(وَلَلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرࣱ لَّكَ مِنَ ٱلۡأُولَىٰ) أي: إن الكرَّة من الوحي خير لك من المرَّة الأولى، فسيكمل بها الدين، وأين بدء الوحي من عوده؟ وأين الإجمال من التفصيل؟ حتى أعلن (ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینࣰاۚ).

(وَلَسَوۡفَ یُعۡطِیكَ رَبُّكَ فَتَرۡضَىٰۤ) في الدنيا والآخرة، وقد أعطاه فرضي، فقد أكمل  له الدين، ولم يكمُل لأحد قبله من النبيين، وجعل له لسان صدق في الاخرين، وفتح له الفتح المبين، وأنجز له في حياته كل ما وعده، وقرّ عينه، وأنعم باله برؤية ألوف من أتباعه الموحدين الراسخين وعباد الله الصالحين، والجنود المجندة من المجاهدين المخلصين.

(أَلَمۡ یَجِدۡكَ یَتِیمࣰا فَـَٔاوَىٰ) معلوم أنَّ النبي صلى الله توفي والده وهو في بطن أمِّه، فلمَّا أرضعت له كفاها الله المَؤنة، ونشأه أحسن ما ينشأ الولد في حِجر أبيه، وصنعه على عينيه، وتقبله بقبولٍ حسن، وأنبته نباتاً حسناً وكفله جده، وما أدراك ما جده؟ ثم عمّه، وما أدراك ما عمه؟

(وَوَجَدَكَ ضَاۤلࣰّا فَهَدَىٰ) هذه المنَّة أكبر الثلاث التي منَّ الله سبحانه بها على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ المنَّتان تتعلقان بالجسم والدنيا، وهذه تتعلق بالدين والروح، بل بالعالم، لأنَّ هدايته كانت موقوفة على هدايته، كنور العالم على طلوع الشمس .

والضلال أنواع: منها الحيرة والتردد، وقسط الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منهما ما قبل أن تشرق عليهم شمس النبوة والحقيقة أوفر من قسط غيرهم، كقسط الهداية قال تعالى (وَلَـٰكِن جَعَلۡنَـٰهُ نُورࣰا نَّهۡدِی بِهِۦ مَن نَّشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ﴾ [الشورى ٥٢].

وقد حكى عن خليله الموحد الأكبر في محاجَّته لقومه وإبطال شركهم ما يدل على رسوخه في الهداية فقال ﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ نُرِیۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِیَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِینَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَیۡهِ ٱلَّیۡلُ رَءَا كَوۡكَبࣰاۖ قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَاۤ أُحِبُّ ٱلۡـَٔافِلِینَ ﴿فَلَمَّا رَءَا ٱلۡقَمَرَ بَازِغࣰا قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَىِٕن لَّمۡ یَهۡدِنِی رَبِّی لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلضَّاۤلِّینَ (٧٧) فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمۡسَ بَازِغَةࣰ قَالَ هَـٰذَا رَبِّی هَـٰذَاۤ أَكۡبَرُۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَتۡ قَالَ یَـٰقَوۡمِ إِنِّی بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ (٧٨))

وقد نشأ النبي صلى الله عليه وسلم موحداً وكان من طبيعته، غير مقتنع بما عليه قومه وموقناً بفسادهم، ولم تكن بين يديه شريعة محفوظة لكثر التحريف والتبديل وكان يختلي في غار حراء، وكان عَطِشاً إلى الوحي، فذكره الله تعالى بهذه النعمة، فقال تعالى له ﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ رُوحࣰا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِی مَا ٱلۡكِتَـٰبُ وَلَا ٱلۡإِیمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلۡنَـٰهُ نُورࣰا نَّهۡدِی بِهِۦ مَن نَّشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ (٥٢) صِرَ ٰ⁠طِ ٱللَّهِ ٱلَّذِی لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَاۤ إِلَى ٱللَّهِ تَصِیرُ ٱلۡأُمُورُ (٥٣)﴾ [الشورى ٥٢-٥٣].

(وَوَجَدَكَ عَاۤىِٕلࣰا فَأَغۡنَىٰ ) الظاهر أنَّه على ظاهره فقد كان النبي صلى الله عليه وسلَّم فقيراً، ولم يترك له والده إلّا ناقة وجارية، فوهبه الله تعالى من الملك والقوة والأصحاب الذين كانوا يفدونه بأنفسهم ونفائسهم ومهجتهم ما لم يرزق نبي قبله ولا يرزق رجل بعده.

أمّا سليمان عليه السلام فقد سخَّر الله له الجن دون الإنس، ولا يناقضه أنَّه كان خصوصاً في المدينة – يرى هلالاً وهلالين وأكثر، ولا توقد في بيته نار ولا يجد لعياله – هكذا تروي السيدة عائشة رضي الله عنها عنه – فقد كان اختيارياً، لا اضطرارياً، ففي الحديث الذي يرويه الترمذي عن النبي صلى الله عليه ” عَرضَ عليَّ ربي ليجعل لي بطحاء مكَّة ذهباً، قلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً- أو قال: ثلاثاً – فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، فإذا شبعت شكرتك وحمدت” وكان النبي صلى الله عليه وسلم أغنى العالمين قلباً، والغنى غنى القلب.

والمقصود أنَّ من آواك في اليتم، وهداك من الضلال، وأغناك من الفقر: لا يتركك البتَّه في مستقبل الأمر، والعاقل بغرس الغرس ويسقيه ويخدمه، ويسهر عليه ويُعني به، فإذا آن أن يثمر، ويؤتي أكُله لا يهمله، فلهذا اليوم رباه الله وغذاه، وأغناه وآواه، وكان ضالاً فهداه فكيف اليوم ينساه.

(فَأَمَّا ٱلۡیَتِیمَ فَلَا تَقۡهَرۡ) ما أجمل موقعه بعد قوله (أَلَمۡ یَجِدۡكَ یَتِیمࣰا فَـَٔاوَىٰ) فمن ذاق مرارة اليتم بنفسه، فأخلقْ به إذا كان ذا شعور ومرؤة أن يستشعرها في غيرة، فاليتيم أعرف خلق الله بحال اليتيم، وأعرف بما يذوقه ويتحمله، فإنّه قد اجتاز هذه المرحلة أيضاً، فأراد الله سبحانه أن لا ينسى يتمه مهما طال عهده به، وأن يستحضرة عند رؤية اليتيم.

ولعله لهذه الحكمة وُلد النبي صلى الله عليه وسلم يتيماً، ونشأ يتيماً، ورعى الغنم في بني سعد، ليكون للأيتام والبؤساء أباً ووالداً براً ويرقُ قلبه وتنشأ عاطفة الشفقة والحنان، شأن الأيتام، كما أنّ موسى عليه السلام رعى لشعيب غنمه عشر حجج، ليعلم حقيقة ما يكابدة بنو إسرائيل من خدمة فرعون بعد معاناة الأعمال الشاقة، ويشعر بألمهم وبؤسهم وشقائهم، ويعلم أنّه إذا كانت هذه خدمة نبي خير عباد الله.

(وَأَمَّا ٱلسَّاۤىِٕلَ فَلَا تَنۡهَرۡ) فقد كنت سائلاً ولم ينهرك الله سبحانه، وقد شقّ عليك تأخير الوحي وتأخير الإجابة دون نهر ولا يأس، فاستشعر بمثل هذا في غيرك أيضاً.

(وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ) فمن عادة البخلاء أنّهم يكتمون ما آتاهم الله ليكون لهم عذراً لهم عذراً وسلامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي رأى عليه ثياباً رثّة وقد علم غناه ” إنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده”


شارك المقالة: