رواية فيرديدوركه - Ferdydurke Novel

اقرأ في هذا المقال


يُعتبر المؤلف والأديب فيتولد غومبروفيتش وهو من مواليد جمهورية بولندا من أهم وأبرز الكُتاب الذين ظهروا في القرن العشرين، فعلى الرغم من دراسته القانون إلا أنه اتبع هوايته في التأليف والكتابة وركز كامل اهتمامه فيها، ومن أكثر الروايات التي اشتهر بها هي رواية فيرديدوركه، والتي صنفها الأدباء أنها تأتي في الدرجة الثالثة لأروع الروايات التي كتبت، وتم العمل على نشر الرواية في سنة 1937م، كما تم ترجمتها إلى العديد من اللغات العالمية ومن ضمنها اللغة العربية.

رواية فيرديدوركه

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث الرواية حول مزحة، حيث أنه في اللحظة التي أفاق بها الراوي الذي يدعى جوي كوفالسكي وهو في الثلاثين من عمره من نومه، وقد كان في تلك الأثناء يفكر في الرؤية المزعجة التي قد شاهدها في منامه وأزعجته، حتى دخل البروفيسور الذي يدعى بيمكو إليه في غرفته، فيبدأ في معاملته وكأنه ما زال مراهقاً في السادسة عشرة من عمره، إذ يرغمه على العودة إلى مقاعد الدراسة في المرحلة الثانوية.

وقد أراد أن يوحي الكاتب في البداية إلى أن تلك الرواية تصلح لأن تكون قصة قصيرة للوهلة الأولى، فقد كان يبدو الموضوع أكثر طرافة بعض الشيء، ولكن الكاتب قد أسهب به وحوّله من أمر طريف إلى أمر مضجر ورتبه وفصله في رواية، إذ كان يشير إلى مصداقية في تلك الأحداث على الرغم من أنها غير معقولة، كما أراد الكاتب أن يشير إلى إحدى أهمّ خصوصيات إذ كان يتعمد في الكثير من مؤلفاته الأدبية إلى معالجة مواضيع تكون بالنسبة إلى الأشخاص مواضيع هزلية بامتياز، ولكن بطريقة ما فإنه يفتعل الواقعية، ويطرح في خضم الموضوع مجموعة من التساؤلات الوجودية، كما يعمل على استدعاء روح الدعابة والفكاهة وعدم الاعتماد على الجدية التي تتصف بها الروايات الأوروبية الحديثة مثل رواية دون كيخوتي.

وفي لحظة ما يتحول البطل جوي إلى أسير لتلك المزحة، حيث أنه يشرع بارتياد المدرسة بشكل يومي، إذ يتفاجأ بأن كل من البروفيسور بيمكو والمدرسين والمدير والطلاب يقومون بمعاملته على أساس أنه ما زال صبي في سن السادسة عشرة من عمره، كما أنه كان لا يقوى على الاحتجاج على ذلك الأمر، على سبيل المثال في أن يقوم بالصراخ؛ وذلك لأنه ليس بشخص مراهق وأنه في الحقيقة يبلغ من العمر ثلاثين عام، وهذا الأمر يجعله يستسلم ويتصرف حسب العمر المفروض عليه، من دون أن يدرك غرابة هذا الوضع بأكمله.

وفي إحدى اللحظات يلاحظ بشكل تدريجي أن جميع الوجوه من حوله هي شخصيات كاريكاتورية، إذ كانت مجرد دمى مشوهة، ومجموعة أخرى من الوجوه التي بدت وكأنها مجرد أقنعة تتحدث وتتحرك بطريقة أوتوماتيكية، وكأنه لا يوجد هناك أشخاص حقيقيين من لحم ودم ورائها تمثلها، كما كان هناك قناع يشبه وجه مثل أستاذ الأدب تماماً الذي كان يكرر حديثه كدمية، وأنه ذلك الشاعر البولندي الرومانسي العظيم الخالد؛ وذلك لأن شعره مؤثر بشكل كبير فيمن حوله؛ ولأنه كذلك يشعر القارئ بالعظمة والخلود مدى الدهر.

كما كان هناك وجه يمثل ذلك التلميذ المشاغب والسوقي الذي لا ينطق سوى بالسب والقذف من ثغره وقد شبه بالببغاء؛ كما كان هناك أيضاً وجه التلميذ المهذب والذي لا يمكنه أن ينطق بشيء ليس له علاقة بالقيم والفضائل الأخلاقية والمثل العليا.

وفي تلك الرواية لم يجعل الكاتب حاجة القارئ لأي نوع من المجهود التأويلي لكي يفسر ما تدل عليه هذه الوجوه التي كانت جميعها قبيحة من وجهة نظر المؤلف، إذ أراد أن يتحمل بنفسه هذا العناء عن القارئ، فكل ما أراده هو المزج بين مقاطع سردية وأخرى تأملية أشار من خلالها إلى أن يكون القارئ هو المؤلف بشكل مباشر وليس مجرد راوي، كما أوضح من خلال روايته أنه قدم الموضوع المبتغى بشكل نظري وأن معانيه بالكامل تم تفسيرها.

وهنا أراد أن يعبر عن أن وجه الإنسان أو شكله الخارجي، ما هو سوى الشخصية المفروضة عليه من الخارج من أقرانه البشر ومن المجتمع من حوله، والتي ينغمس معها الشخص من الداخل إلى حدّ أنه يعتبرها الهوية الحقيقية بالنسبة له، حيث أن الشكل من وجهة نظر الكاتب لا يقتصر على ما يُعرف بالدور الاجتماعي الذي يتم تحديده بناءً على الوظيفة أو المنصب الذي يعمل به.

بل هو يكون مشتمل على كافة القواعد السلوكيات والكلام وطريقة التفاعل مع الآخرين من حوله، إضافة على ذلك يتضمن الآراء والمشاعر والأذواق للشخص وكافة ما يشمله تفكيره بينه وبين نفسه، فكل تلك الأمور هي عبارة عن عناصر يعتقد المرء أنه يختارها من ذات نفسه ويعتبرها مُلكه الشخصي، ولكن من وجهة نظر المؤلف فإن مصدرها الحقيقي هو العالم الخارجي الذي يقلب الشخص رأساً على عقب كما يعمل على تشويهه بالكامل، ويساهم بشكل كلي في إلباسه قناع دميم يقود الفرد إلى التفاخر واعتباره شخصيته الأصلية.

وإضافة على ذلك كله، فإنّ المؤلف قد أشار إلى أنه في الحقيقة لم تكن هناك أي شخصية أصلية تحت هذا القناع المزيف، فقد أوضح أن جميع البشر لم يكن بمقدورهم اختراق الأقنعة القبيحة، فقد كانت مجرد كائنات غير ناضجة وغير واعية خائفة وتائهة في هذا العالم، ولا تعلم ما دورها في هذا العالم، ومن يمتلك الجرأة وفي نزع القناع بنفسه، فإنه في الحقيقة يتباهى بعدم نضجه، وإن فَعل ذلك فإنه يتحول إلى مثل جوي بطل الرواية، فقد كان جوي في البداية هو كاتب يرفض السير مع أي من القيم التي يقوم المجتمع بفرضها عليه، فيتلقى عقاب على ذلك بأن تتم معاملته كطفل.

وقد أراد المؤلف من خلال الرواية أن يبين جميع التفسيرات والتوضيحات الفلسفية من خلال سلسة مغامرات جوي، والتي كانت لا تقتصر فقط على محيط المدرسة، بل تتوالى عبر بيئتين آخرتين وهما الطبقة البرجوازية في المدينة والطبقة الأرستقراطية في الأرياف، حيث أشار الكاتب أن لدى جميع الشخصيات هذا التفاوت والذي اعتبره أمر مؤلم بين عدم النضوج الخفي والقناع الذي ينبغي على الشخص ارتداءه حتى يتمكن من التعامل مع الآخرين من حوله.

كل هذا التأمل الفكري أو حتى التفكير الفلسفي الذي قام الكاتب بإضافته على مؤلفاته لا يتحول على الاطلاق إلى مجرد وعظ جاف أو مجرد تنظير، بل يبقى أقرب إلى حد كبير إلى الهزل المرِح والفكاهة، وهذا ما جعل كونديرا يندفع في كتابه الشهير (الوصايا المغدورة) إلى عمل مقارنة بين الأديب غومبروفيتش والأديب جان بول سارتر.

حيث قال: إن سارتر احتل عن غير حق خلال روايته الغثيان على المكانة الأول في كتابة الرواية، إذ أن كونديرا يعد روايات سارتر ما هي إلا مجرد تنظيرات فلسفية متنكرة خلف أسلوب روائي، بينما روايات غومبروفيتش هي روايات فلسفية حقيقة، وأضاف كونديرا: أن رواية فيرديدوركه مثال على هذا التوجه وأقيمت حال صدورها ليلة عرس للفلسفة، وفي النهاية أشار غومبروفيتش إلى أن سبب تسميته لرواية بهذا الاسم قد جاء من لحظة عفوية واسمها لا يعني أي شيء.


شارك المقالة: