صفات المتقين وقفة مع أوائل سورة البقرة

اقرأ في هذا المقال


قال تعالى: (الم ﴿1﴾ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴿2﴾ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿3﴾ صدق الله العظيم.

قال تعالى: ﴿الۤمۤ ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾.. صدق الله العظيم.

روى المفسرون عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنّ هذه السورة نزلت بالمدينة، وهي أول ما نزل بها، ولا ينافي هذا ما قيل من أنّ قوله تعالى : ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١) ﴾ الآية نزلت بمكة، لأنّنا نقول على تسليم هذا القول: نعم، إنّها نزلت بمكة، ولكن في حجة الوداع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مقيماً بالمدينة، فآية الأمر أنّها نزلت في إحدى أسفاره؛ ومثل ذلك لا تحصل به المنافاه.

وممّا يؤكد أنّها مدنية اشتمالها على أوصاف المنافقين، وهم لم يظهروا إلّا في المدينة، وبيان هؤلاء يظهر ممّا يأتي:

ولذلك قال علماء السيرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى المدينة صار الكفار ثلاثة أقسام:

  • قسم صالحهم واودعهم على أن لا يحاربوه.
  • وقسم حاربوه، ونصبوا له العداوة.
  • وقسم تركوه، فلم يصالحوه، ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره.
  • ومنهم من دخل معه في الظاهر، ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون.

وهذا الكلام يثبت صحّة كلامنا أنّ السورة مدنية.

قوله تعالى: ﴿الۤمۤ – ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ صدق الله العظيم.

ذهب المتكلمون في التفسير في كلامهم على (المۤ) وأمثالها من فواتح السور مذهبين:

أولهما وأولاهما: أنّ هذا العلم مستور، سر محجوب، استأثر الله تعالى بعلمه، فلا حظ للبشر في الوصول إليه، وكانوا يقولون: الله أعلم بمراده، وقد جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقوله:

لله في كل كتاب سر، وسره في القرآن العظيم أوائل السور.

فإنّ قال قائل: إنّ هذا المذهب يبطله العقل والنقل، لأنّه لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق، فمن النقل قوله تعالى: ﴿أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَاۤ﴾ صدق الله العظيم [محمد ٢٤] وقوله تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِیࣲّ مُّبِینࣲ﴾ [الشعراء ١٩٥] صدق الله العظيم.

فالواضح من الآية الأولى: أنّ الله أمرهم أن يتدبروا القرآن، ولو كان غير مفهوم لما أمرهم الله بالتدبر، والآية الثانية: تقول بلسان عربي مبين الواجب أن يكون مفهوماً.

والجواب هذه الإشكاليات، لا يُنكر أحد أنّ الأفعال التي كلفنا الله إياها قسمان:

أحدهما: ما عرفنا وجه الحكمة فيها على الجملة، كالصلاة التي هي تواضع محض، وتضرع للخالق؛ والزكاة التي هي سعي في دفع حاجة الفقير.

وثانيهما: ما نعرف وجه الحكمة فيه، كأفعال الحج، فإنّ عقولنا لا تعرف وجه الحكمة في رمي الجمرات؛ والسعي بين الصفاء والمروة؛ والطواف حول الكعبة؛ والوقوف بعرفات وغيرها.

فإذا كانت الأفعال، وكان المقصود من أولاهما: أنّ فاعلهما لا يدل على انقياده بفعله، لاحتمال أنّه السنة، أتى بما أتى به لمعرفته وجه المصلحة فيه، وكان المقصود من ثانيهما: دلالة الفاعل على كمال انقياده، ونهاية تسليمه، فِلمَ لا يجوز أنت يأتي في مثل ذلك في الأقوال.

وثاني المذهبين: أنّ المراد بهذه الفواتح معلوم، وأقرب ما قالوه إلى القبول قولان:

أحدهما: أنّها أسماء للسور، وهو قول النحاة، وقد أفرد لها سيبوية في كتابه باباً في حد ما لا ينصر.

ثانيهما: ما ذكره المبرد، وجمع عظيم من المحققين: أن الله تعالى إنّما ذكرها احتجاجاً على الكفار، وذلك أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة، فعجزوا عنه، أنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أنّ القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وأنتم قادرون وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر.

قوله تعالى:﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ صدق الله العظيم، ينحى اسم الإشارة فيه طريقان:

منها أنّ اسم الإشارة، راجع إلى ما نزل من القرآن، قبل نزول هذه السورة، وقد يسمَّى بعض القرآن قرآناً مجازاً، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُوا۟ لَهُۥ وَأَنصِتُوا۟ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾ صدق الله العظيم، وقال تعالى حاكياً عن الجن: ﴿قُلۡ أُوحِیَ إِلَیَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرࣱ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوۤا۟ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبࣰا﴾ صدق الله العظيم، وهم لم يسمعوا إلّا بعضه، والأقرب في إعراب الجملة، أن يجعل ( ذا ) في قوله تعالى: (ذَ ٰ⁠لِكَ) مبتدأ خبره ( الكتاب)، أي: ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو الكتاب صفته، والخبر ما بعده.

وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها، ومنه حديث الحسن بن علي مرفوعاً: ” دع ما يُريبك إلى ما يُريبك” ثم أطلق الريب على الشك لأنّه يُقلق النفس، وُيزيل الطمأنينة في النفوس، والمعنى: أنّ العاقل إذا تأمل براهينه السّاطعة، وآياته الواضحة، لا يبقى عنده ريب في أنّه من عند الله تعالى.

قوله تعالى: (فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ… )  صدق الله العظيم، أي أنّ الكتاب نفسه هدى، كما وصفه الله تعالى بذلك في مواضع من أنّه نور وهدى، وأتى به منكَّراً، إشارة إلى أنّه هدى عظيم لا يُكتنه كنه- أي لا يبلغ أحد مداه – ولا تحيط به العبارة به، الهدى هو:  الدلالة مطلقً سواء أوصلت أم لم لم تصل إليه، قال تعالى : ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَیۡنَـٰهُمۡ فَٱسۡتَحَبُّوا۟ ٱلۡعَمَىٰ عَلَى ٱلۡهُدَىٰ… ) صدق الله العظيم، [فصلت ١٧] ومعناه دللناهم على طريق النجاة، فلم يتبعوه.

والتقوى: الخشية، وقد فسر الله المتقين بأوصافهم التي وصفهم بها في هذه الآية، فلا حاجة لذكر أوصاف لهم غيرها.

(هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ) إشارة إلى أنّهم المهتدون به، والمنتفعون بهديه.

قوله تعالى ﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣] صدق الله العظيم.

أي يصدقون بالأمر الغائب لا ينفع في الإيمان غيره، وهو قسمان:

قسم لا دليل عليه، وهو المعني بقوله تعالى: ﴿۞ وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَیۡبِ لَا یَعۡلَمُهَاۤ إِلَّا هُوَۚ وَیَعۡلَمُ مَا فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا یَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةࣲ فِی ظُلُمَـٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبࣲ وَلَا یَابِسٍ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینࣲ﴾ [الأنعام ٥٩] صدق الله العظيم، وقسم نصب عليه دليل، كالصانع وصفاته، واليوم الآخر وأحواله، فيصدقون بكلا القسمين ممّا لا يدركه، ولا تقتضيه بديهة العقل، لأنّ الله سبحانه ورسوله أخبرا بذلك، تصديقاً حقيقياً ليس كتصديق المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.

قوله تعالى: (وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ) صدق الله العظيم، يديمون فعلها من غير خلل في أركانها وشروطها، ويراعون حقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال على الله تعالى.

قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ) صدق الله العظيم، أي: وممّا مكناهم من الانتفاع به على عظمة خزائننا، ينفقون في مرضاتنا، ممّا هو لازم لهم من الزكاة، والحج ، والجهاد، والنفقات الواجبة، وقال بعضهم: ينفقون النعم الظاهرة والباطنة.


شارك المقالة: