ظاهرة الحنين في شعر ابن خاتمة الأندلسي

اقرأ في هذا المقال


عاشت الأندلس في بداية عصرها حياة الرفاهية والترف واللهو، وكان أهلها منغمسين في الملذات لاهين في عيشهم، ومع تطور الأحداث والصراعات نتيجة لعِدّة عوامل سياسية واجتماعية تبدل الحال وتغير، واستيقظ أهل الأندلس من غفلتهم وشعروا بالذنب والذل والمهانة، ومن بينهم شعراء قد تأثروا بهذه الأحداث والصراعات وتجلى ذلك واضحًا في شعرهم، وغلب عليهم طابع الحنين والتشوق وهذا ما سنتناوله بالشرح في هذا المقال من خلال ظاهرة الحنين في شعر ابن خاتمة الأندلسي.

نبذة عن حياة الشاعر ابن خاتمة الأندلسي

هو أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن خاتمة المعروف بأبي جعفر الأنصاري الأندلسي، وكان من أشهر أطباء عصره وتميز بالأدب والبلاغة، ولد في ألمرية بالأندلس وعاش فيها، وكان مولع في حلقات الإقراء التي تعقد في الجامع الأعظم، وكان كثير الزيارة لمدينة غرناطة، وقيل أنه قد توفي نتيجة مرض انتشر في مدينة ألمرية آنذاك وهو الطاعون الأسود.

من مؤلفاته الشهيرة التي أثرت الأدب العربي كتابه “مزية المرية على غيرها من بلاد الأندلسية” وكذلك كتاب “ورائق التحلية في فائق التورية”، وكذلك كتابه “إلحاق العقل بالحس في الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس” وكتابه “إيراد اللآل من إنشاد الضوال”، وكذلك ديون شعره “ريحانة من أدواح ونسمة من أرواح” وكذلك ” تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد”.

وأُعجب العديد من الأدباء والشعراء الأندلسيين بابن خاتمة وتأثروا بأدبه وعلمه ومن بينهم الأديب لسان الدين بن الخطيب الذي أعجب بابن خاتمة كثيرًا وقام على ترجمة العديد من مؤلفات ابن خاتمة، وكان كثير المدح له، وأثبتت الدراسات من خلال كتب المراسلات بينهم التي مكتوبة بلغة بديعة ومشاعر الود والتقدير واضحة فيها على قوة ومتانة العلاقة التي تربطهم.

ونجد ابن الخطيب يصف ابن خاتمة ويقول: “قوي الذهن كثير الاجتهاد، جيد القريحة بارع في الخط، ممتع المجالسة حسن الخلق، وهو حسنة من حسنات الأندلس وطبقة في النظم والنثر”.

ظاهرة الحنين في شعر ابن خاتمة الأندلسي

عرف عن أهل الأندلس تعلقهم الكبير بوطنهم يدافعون عنه ويتعصبون لأجله فقد عاشوا في وطنهم أجمل أيام حياتهم وقد وفرت لهم كل أسباب الهناء والسرور وكذلك رغد العيش، فكان يراها جنة الله على الأرض بما تحتويه من بيئة جميلة ورائعة، سواء بالتضاريس الخلابة أو وفرة المياه الجارية فيها أو تنوع أشجارها وأزهارها والطيور التي تشدو بأعذب الألحان، وكثرة الخيرات فيها، وكل ذلك عمل على إنعاش الاقتصاد فيها وازدهاره.

وقد كانت الأندلس في نظر أهلها وساكنيها هي جنة لا يوجد لها مثيل في هذه الحياة، ولا يقدرون على فراقها، وإذا أجبروا على ذلك شعروا بالغربة وشدة الشوق إليها، ومع مرور الوقت وتطور الأحداث وكثرة الصراعات على أرض الأندلس أيقن أهل الأندلس أن هذه الجنة ما هي إلا جنة فانية بعد أن شاهدوها تنهار وتتقلص وتتبدل من حال إلى حال، وخصوصًا بعد واقعة العقاب وما حلّ بهم من هزيمة فيها.

ومن هنا تبدأ ظاهرة الحنين تظهر بشكل قوي بين أهل الأندلس فيحنون إلى أيام الرفاهية ومجالس السمر والترف في أحضان جزيرتهم الخلابة، وطغت لديهم ظاهرة الحنين إلى الحجاز والديار المقدسة، بعد أن سيطر عليهم إحساس الندم على ما فات من حياتهم واستغراقهم في اللهو والملذات والطرب مقصرين في دينهم، فظهرت لديهم ظاهرة التشوق والتوسل والشوق إلى الديار الحجازية.

وقد ظهر الحنين كصفة قوية من صفات شعر شعراء الأندلس، وتجلى ذلك واضحًا في شعر ابن خاتمة الأندلسي الذي شهد تقلص مساحة الدولة الأندلسية، وبقيت في حدود مملكة غرناطة، التي صمدت وواجهت الأعداء بشتى الأشكال، وكثرت فيها الأحداث والتطورات السياسية، لكنها تميزت بازدهارها ثقافيًا بشكل واسع، وكيف لا وهو عصر ابن لسان الخطيب، وابن جزي وابن خلدون وغيرهم الكثير من الأدباء.

وعرف عن ابن خاتمة أنه كان من المقربين من الحكم الغرناطي آنذاك، وكان مشهورًا بشعره وكذلك أدبه ونثره وعرف عنه أنه كان مؤرخ رياضي وكاتب ومقرئ وكذلك طبيب مشهور، والذي يتناول أشْعار ابن خاتمة يجد فيها اضطراب النفس وحالة غير مستقرة، أفكاره مشتتة متضاربة فهي تعكس لنا عمق الاضطراب والصراع الداخلي في نفس الشاعر، فهو واقعٌ بين مطالب روحه المادية وحاجتها إلى الملذات واللهو، ومطالب روحيه تفرضها عليه عقيدته.

ومع شعوره بأن النهاية قد اقتربت وأن الملذات انتهت وكذلك شعوره بأن وجوده في تلك الجنة قد انتهى أيضًا، ساقته إلى حاجات روحية صورها بطرق متعددة، ملبسًا إياها أثوابًا من المطالب المادية مثل السمر وشرب الخمر والغزل وغير ذلك، ونشعر أنه غريبًا عن لغته وقد تقمص التجربة الصوفية والزهد.

وصف غزل ابن خاتمة بأنه غزل غامض غير واضح لما يتخلله من حنين إلى الديار المقدسة، وحنينه إلى المرأة، ويظهر ذلك في أبياته حيث قال:

خليلي والعشاق في الحب أضرب

ولكنني في لوعتي علم فرد

نشدتكما الله اصدقاني هل لما

بدا لكما من حالتي في الهوى ند

وفي الأبيات السابقة يظهر الاضطراب واضح فهو لا يقدر على التمييز بين حب الديار المقدسة وحب المرأة، ونراه ينفي أن يكون واقعٌ في الهوى في بيت آخر حيث يقول:

أعاذلتي إن كان لومي على الهوى

فليس لقلبي فيه أخذ ولا رد

أما عن ظاهرة الحنين التي غلبت على معظم أشعاره، يظهر لنا أنه كرَّس أهدافه وطموحه في هذه الحياة من أجل هدف واحد وهو العودة إلى الحياة السابقة كي يكفر عن ذنوبه وما اقترفه من معاصي آنذاك، ونراه يتمنى لو يستطيع زيارة نجد للانتقال للعيش في العالم الروحي هناك إذ أن المادة هناك لا معنى لها ولا تساوي شيئًا، وما هذا إلا رد فعل على غرقه في الملذات ويقول في ذلك:

أحن إلى نجد إذا ذكرت نجد

ويعتادُ قلبي من تذكرها وجد

ونراه يتمنى لو أن يعفر خده بتراب نجد وهذا يدل على مدى الحنين إليها حيث يقول:

هل أكحل الجفن من ترب به عبق

وأرشف الثغر من إظلاله اللعس

وأبلغ الخد من تعفيره وطرا

شوقا لموطئ نعل طاهر قدسي

هناك الثرى يربي على المسك طيبة

ودوحاته تزري على العنبر الورد

كما شاهدنا في أغلب أشعاره وقصائده إشارة واضحة لحنينه للماضي وذكرياته في الحجاز على الرغم من أنه لم يغادر بلاد الأندلس قط، وبعدها يلجأ إلى تذكر أيام الصبا وأيام اللهو والغناء ومنازل الأحبة والخلان، حيث يقول:

ألا هل لأيامٍ تَقضَّيْنَ بالحمى

سبيل لِذي وجد تناهى به الجهد

ونراه في أبيات أخرى يتحدث عن أيامه التي مضت وهو غارقٌ في النعيم، وشبهها وكأنها لحظات سريعة عابرة ويتحسر على تلك اللحظات حيث يقول:

لم تكن غير لمح برق تراءى

أو خيال قرب الصبيحة زارا

آه من ذا البعاد قد ضاق ذرعي

أسأل الله حسبة واصطبارا

تحول الشاعر ابن خاتمة بشوقه إلى مدينة غرناطة ويخاطب النسيم الذي يأتي من جهتها، متسائلًا عن أخبار الأهل والأحباب

يا نسيما سرى لأقرب عهد

بحماهم حدثني الأخبارا

كيف غرناطة ومن حل فيها

حبذا الساكنون تلك الديارا

ويظهر حنينه ممزوجًا بين أيام اللذة واللهو وحنينه إلى الديار المقدسة حيث يقول:

تروم رضاها وتأتي المناهيا

أحب وعصيان؟ لقد ظلت لاهيا

تكنيت عبد ثم أكننت إمرة

أعبدو وأمر؟ ما خالك صاحيا

ويظهر لنا في أشعاره مدى الندم ويلوم نفسه التي انغمست بالملذات، ونراه يتوسل من الخالق عز وجل أن يعفو ويغفر له، ويقول:

فتنت بدنيا جاذبتني أعنَتَي

فما لي لا أبكي لذلك مالا؟

فقد فتح الرحمان أبواب عفوه

لمن راجع الذكرى وأقبل خاشيا

ومن هنا نرى ظاهرة الحنين التي طغت على أغلب أشعار شعراء الأندلس عامة وقصائد ابن خاتمة خاصة، نتيجة للأحداث وتقلب الحال بعد أن كانوا يعيشون أيام الرفاهية غارقين في ملذات الحياة،

وفي النهاية نستنتج أن الشاعر الأندلسي قد مرَّ بالعديد من الأحداث التي كان لها أثر واضح على حياته، ونراه يلجأ إلى شعر الحنين للبكاء على أيام اللهو والترف.


شارك المقالة: