تُعتبر هذه القصة من الروائع الأدبية الصادرة عن الكاتب غي دي موباسان، وقد تناولت القصة في مضمونها الحديث عن مدى حب الرجال الفرنسيين للنساء وكمية الاحترام والتقدير التي تقدم لهن، وأن رجال فرنسا هم من أكثر الرجال في العالم الذين يقدسون المرأة.
قصة أفكار العقيد
في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول سيد يدعى لابورت، حيث أن السيد لابورت كان في يوم من الأيام قد تقاعد من الجيش برتبة عقيد، وبعد مرحلة التقاعد بدأ في استطراد بعض الذكريات، ولكن ليس فيما يخص الجيش فقط، وإنما كذلك في الحديث عن مرحلة ريعان الشباب ومدى حب الرجال الفرنسيين للمرأة واحترامها وتقديرها، وأول ما بدأ حديثه بقوله: على الرغم من أن جميع الرجال متشابهون بعض الشيء في هيئة الشكل الخارجي، إلا أن رجال دولة فرنسا على وجه التحديد هم فرسان الحب والصداقة الحقيقية؛ وذلك لعدة أمور منها أنهم لا يمكن لأي امرأة تقع في حبهم تقوى على نزعهم من قلبها؛ وذلك لأنهم يعشقون المرأة جداً ويفعلون من أجلها جميع صنوف الجنون.
وما دامت دولة فرنسا موجودة على خريطة أوروبا، سوف يظل هناك فرنسيون حتى ولو تم استعمارها، وهنا تطرق للحديث عن نفسه، وقد أشار إلى أنه كان حينما تتقابل عينيه بعين امرأة، يملأ قلبه شعور أن بإمكانه فعل المستحيل من أجلها، إلى الحد الذي يجعله يصارع ويقاتل، وأنه مستعد إلى أن يقوم بتحطيم أي شيء أمامها حتى يظهر أنه الأقوى والأشجع والأكثر إخلاصاً بين الرجال.
وقد أوضح أنه ليس هو فقط كذلك وإنما كل الفرنسيين وعلى وجه الخصوص كافة أفراد الجيش بدءًا من الجندي وحتى اللواء، فالجميع يمضي قدمًا حتى النهاية حينما يتعلق الأمر بامرأة جميلة، وإنني أذكر القائدة التي تدعى جان دارك وما جعلت الجنود يفعلوا في غابر الأيام.
وهنا أوضح العقيد أنه في حال استملت امرأة جميلة أمر قيادة الجيش وتعرضت لجرح بسيط لقاموا الجنود بأكملهم بعبر الخطوط البروسية من أجل شفاء جرحها، وفي ذلك الوقت استذكر العقيد قصة حدثت بالحرب تبرهن كل ما يقوله وتثبت أن الفرنسيون قادرون على كل شيء أمام امرأة.
وأول ما بدأ بسرد القصة أوضح أنه في تلك الفترة كان برتبة نقيب وكان هو الآمر على فوج من الاستطلاع قد تراجع وسط بلد اجتاحه البروسين، وفي ذلك الوقت كانوا محاصرين ومطاردين، وعلاوة على تلك الحالة التي كانوا بها كان قد تمكن منهم التعب والإرهاق والجوع، وقد كان عليهم أن يصلوا في اليوم التالي إلى مدينة بارسو تران، وإلا سوف يتم ذبحهم وتقطيع أجسادهم، وأنهم لحد تلك اللحظة لا يعلمون كيف أنهم ما زالوا على قيد الحياة وأفلتوا من يد العدو.
وفي تلك الأثناء كان يتوجب عليهم أن يقوموا بالزحف لمسافة تقارب لاثني عشر ميلاً من فوق الثلج ومن تحت الثلج وعلى تلك البطون الخاوية، وهنا بدأ يفكر العقيد بأن أمرهم قد انتهى، فلم يدخل إلى بطون جنوده منذ يومين أي طعام، وقد حاولوا الاستخفاء في أحد المخازن التي يحفظ بها الحبوب؛ وذلك من أجل أن يتقوا أنفسهم من البرد القارس، وقد كانت حالهم يرثى لها، إذ عجزوا عن أي حركة ولم يتمكنوا كذلك من النوم، فقد كانوا ينامون بشكل متقطع.
وحينما حلّ الظلام استوقفهم العقيد من أجل إكمال طريقهم، بينما كانت نظراتهم له كأنها تقول كفانا لقد اشرفنا على الموت، والموت في هذا المكان كالموت في بلادنا، ولكن حينها قام بإخراج سلاحه ووجهه نحوهم وقال: من يتراجع سوف أقتله، وهنا سار جميع الجنود ولكن ببطء شديد، وفي تلك اللحظة أرسل أربعة منهم من أجل استطلاع الطريق على بعد ما يقارب الثلاثمئة متر باتجاه الأمام، ثم بعد ذلك تبعهم الباقون وهم يرددون تبعًا للتعب وطول الخطى.
وفي تلك الأثناء قام بوضع الجنود الأمتن بنية في آخر صف من الخلف، وبين الحين والآخر يأمرهم بالإسراع في السير كانت البنادق على ظهورهم والثلج يغطيهم وكأنه يدفنهم وهم ما زالوا على قيد الحياة، فكانت أشكالهم تبدو مثل الأشباح، كان العقيد متيقن في نفسه أنهم لم يخرجوا أحياء من ذلك المكان، وبين الحين والآخر كانوا يتوقفون لدقائق بسبب أولئك الذين لا يستطيعون متابعة المسير، كما كان هناك بعض الرجال ممن لا يزال بهم قوى قليلة يقومن بنفض الثلج عن أنفسهم.
وفي لحظة من اللحظات شاهد رجال الاستطلاع قادمين، وأول ما وصلوا قالوا أنهم يسمعون شيء يقلقهم، وهنا أمر العقيد أن يذهب ستة من الرجال من الضباط ومعهم جندي برتبة عريف، وجلسوا البقية في مكان ينتظرون وقبل أن يتحركوا السبعة رجال، سمعوا صوت قد اختراق صوت الثلج وقد كان صوت امرأة وإلى جانبه صوت آخر من الواضح أنه يعود لعجوز، وقد كانا هاربان من وجه البروسين الذين احتلوا منزلهم وهم فاقدين الوعي، فخاف الأب على ابنته فهربا دون أن يعلما خدمهما.
وأول ما وصلوا إلى المكان الذي يوجد به الجنود عرف العقيد على الفور أنهما برجوازيان وطلب منهم مرافقتهم، فوالد الفتاة بمثابة دليل لهم في تلك المنطقة، وهنا توقف الثلوج عن التساقط، وبرزت النجوم، كانت الفتاة طوال الوقت ممسكة بذراع والدها العجوز، وتتمتم قائلة: لم أعد أحس بقدمي.
وفي تلك الأثناء كان العقيد يشعر بالألم لحال تلك الفتاة أكثر مما تشعر به هي، وفجأة وقفت وقالت: والدي أنني أشعر بالتعب إلى الحد الذي لا أستطيع أن أذهب أبعد من ذلك، حاول والدها العجوز أن يحملها، وبعد أن حاول مراراً تهالكت قواه وهي تتأوه طويلًا، وفي تلك اللحظة فجأة توقف أحد الجنود والذي يدعى باريسي وقال: هيا يا رجال علينا أن نحمل الآنسة وإلا فلسنا برجال فرنسيين، وهم جندي آخر باقتلاع جذوع من الأشجار، وقال: من يتبرع بمعطفه من أجل تلك الفتاة الجميلة يا زملاء.
وقد بدأت المعاطف تتهافت من كل جانب وفي غضون ثواني تم صنع ما يشبه النقالة ووضعت الفتاة في تلك المعاطف الدافئة وحملت على ستة أكتاف من الجنود، وقد كان هو على مقدمتهم من الناحية اليمنى ويشعر بالسرور، وفي تلك اللحظات استأنفوا السفر وأعادوا تنظيم صفوفهم من جديد، وكان العقيد يسمع ضحك ونكت على طول الطريق، وقال حينها: تكفي امرأة واحدة جميلة لكهربة جيش بأكمله، وكان الجنود يتبادلون حمل النقالة فيما بينهم، كل منهم ينتظر دوره حين يتخاذل أحدهم في حملها، وبقوا على هذا الحال حتى الساعة الثالثة صباحاً، وقد ساروا الجنود دون توقف وبكل عزيمة وقوة.
وأثناء سيرهم في الطريق فجأة تراجع المستطلعون، فقد كان قادم من بعيد ما يقارب على الاثني عشر رجل من البروسين ضالين طريقهم، وما إن اقتربوا من الجنود وهم يعتلون خيولهم حتى صاح أحد المستطلعين قائلًا: نار، فانطلقت نار من ثلاثين بندقية مستهدفه للبروسين، وقد أردوهم مقتولين مع خيولهم، وبعد أن هدأ دخان البارود وجدوا أن ثلاثة خيول بقيت على قيد الحياة، وقد فروا من كانوا عليها مذعورين من ضمنهم واحد يجر في رجله فارساً مقتول.
وفي تلك اللحظة صدر صوت خافت ناعم متسائل: ما هذا الذي حصل، هل هو قتال؟ فرد عليها العقيد قائلًا: ليس هناك شيء مهم يا آنسة، ولكننا قضينا على اثني عشر بروسي، قالت: يا للهول إنهم مساكين!، وتوارت مرة أخرى تحت المعاطف، ثم انطلقوا من جديد، حتى ظهر في السماء خط شروق دافئ من بعيد.
وفي ذلك الوقت استوقفهم صوت يصيح من بعيد ويقول: من الآتي؟ وهنا توقف الفوج وتقدم العقيد للتعارف، وهنا عرفوا أنهم وصلوا إلى الحدود الفرنسية، وبينما كان الرجال يسيرون من أمام المركز، فسألهم مقدم كان يجلس على أحد الخيول، وهو يرى أن الجنود تمر بالنقالة، قائلًا: ماذا تحملون في داخل النقالة؟
وحين فتح عنها سرعان ما ظهر له وجه أشقر صغير وباسم الثغر، وأجابت الفتاة: أنا يا سيدي حينئذ ضحك الجنود، ودخل الفرح إلى قلوبهم، ولوح الجندي باريسي بقبعته وهو يقول: عاشت فرنسا، وقد شعر العقيد بالتأثر الشديد لفرط إذ وجد ذلك الأمر لطيف، وقد بدا له وكأنه أنقذ البلاد من الاستيطان، وكأنهم فعلوا لم يفعله أي رجال جيش آخر، ذلك الوجه الصغير لن ينساه أبدًا، ثم صمت قليلًا وأردف قائلًا: نحن الرجال الفرنسيين نحب النساء كثيراً.