قصة ابتلاع

اقرأ في هذا المقال


تُعتبر الكاتبة والمؤلفة جابرييلا ميسترال وهي من مواليد دولة البرازيل من أهم وأبرز الأدباء في القرن التاسع عشر، حيث صدرت عنها العديد من الروايات والقصص ودواوين الشعر، وقد تم تصنيف أعمالها الأدبية على أنها من أكثر المؤلفات البرازيلية إبداعاً في أمريكيا اللاتينية، ومن أبرز القصص التي اشتهرت بها هي قصة ابتلاع.

قصة ابتلاع

في البداية كانت تدور وأحداث القصة حول موضوع الأنانية وكيف تنمو منذ الطفولة عند الأطفال، إذ أشارت الكاتبة في أول القصة إلى أنّ من أسوأ العيوب الخطيرة لدى الإنسان أنه يجعل من المآسي التي يواجها في الحياة عبارة عن نكت ساخرة يضحك بها صاحبها نفسه ويحاول إضحاك الناس من حوله معه، وقد أوضحت أنها ليس لديها اعتراض على الضحك بحد ذاته، وإنما تعارض الضحك من غير سبب مقنع، فقد كانت تسرد القصة على لسان أحد الأصدقاء لبطل الرواية والذي كان البطل يطلعه على كامل تفاصيل حياته، إذ بدأ الصديق بقوله: حياتك مأساة بكل المقاييس، أو ربما تكون على الأقل بوادر مأساة يلزم أن تعمل جاهداً من أجل عدم وقوعها

وأكمل الصديق قوله: سوف أضع بين يديك توضيح لكافة ما يحدث معك، على أن أقوم بالاستشهاد بكلام صدر عنك، وطلب من البطل أن لا يقاطعه قبل أن ينهي حديثه، وبدأ بقوله: العيب فينا هو ليست لدينا القدرة على الاستماع الجيد، فالمسألة ليست وقت يستغرقه المتحدث بأنه أطول أو أقصر من الآخر، إذ ينبغي عليك أن تدرك ما سبق وقلته لك، وهو أن هناك بعض الناس لديهم كلام أكثر أهمية وفائدة، وقد يحتاج إلى وقت أطول مما يحتاجه أولئك الذين ليست لديهم غير بعض التعليقات اللفظية الساخرة، والتي بدورها تسعى إلى إضحاك وإشاعة جو من المرح المفتعل.

وأكمل الصديق حديثه بقوله: والآن دعني أرجع بك إلى الموضوع الأساسي ونفسره، لم يكن مثل هذا الأمر لغزًا؛ لأنك عشت منذ طفولتك مرارة الفقد، وأعطيت لأنه لم يكن لديك غير الإحساس الفطري للعطاء، وحينما أدركت أنك تعيش وحيداً في عراء العالم، دون الاستناد على أي شخص فرحت بذلك في اعتقاد منك أن كل تلك الأمور مجرد أمور ساذجة.

وهنا بدأ الصديق بالاستشهاد بكلام البطل الذي كان يسرده عليه فقال: تقول أن ابنك قد تخطى منتصف العام الرابع من عمره، وفي أحد الأيام أخذ زجاجة إرضاع شقيقته ووضعها في فمه وشربها بالكامل، ثم أرجعها فارغة تماماً إلى جانب أخته أثناء نومها، ومن المؤكد أنها سوف تعجز عن حماية رضعتها من قبضة شقيقها الذي يكبرها عمراً، فقد كانت ما زالت في السنة الأولى من عمرها، كما قلت أنّ الأمر لم يشغلك كثيرًا في البداية إلا بعد تكراره على مرآ عينك في الليلة التالية، وهنا أيقظت زوجتك لتقص عليها ما حدث فلم تعطي أي اهتمام لذلك، على عكس توقعاتك، إذ انخرطت في الضحك كما كنت تفعل أنت تماماً، ثم غرقت في نومها وأنت تركتها لتغطس في نفس بحر النوم التي بالكاد حتى أيقظتها منه.

وفي صباح اليوم التالي رجعت تحدثها عن اكتشافك لإضحاكها كذلك مرة أخرى، إذ بدا لك أنها تسمع إلى نكتة سخيفة جداً كانت قد سمعتها ألف مرة من قبل، ومن المؤكد أنك في تلك اللحظة شعرت بالخجل لحظتها وتلعثمت في الكلام كعادتك، ومما زاد الأمر سوءً أنك حدثتها بأن الطفل يبدو أنه يقوم بذلك من مبدأ أنه حلم، وأنه مجرد حلم برئ لطفل برئ يشرب رضعة أخته بينما هو نائم، ولكن في حقيقة الأمر كان الطفل مستيقظًا في الظاهر، ولكن كانت تلك رغبة مكبوتة يجب متابعتها، لكنه تطور الأمر جراء رغبة النساء في النظر بأمورهن الشخصية فقط.

وهنا أشار الصديق للبطل بقوله: لقد تغير الزمن يا صديقي فأمهات الزمن الماضي كانت تعي تماماً ما هي واجباتها اتجاه أطفالها وتقوم بها على أكمل وجه، فقد كانت الأم تفيق من نومها لمجرد أنه سعل طفل أو تقلب من جانب إلى آخر في فراشه، كما كانت يدها مدربة على تتحسس جبهة طفلها حتى تطمئن على حرارته، دون الرجوع إلى مقياس الحرارة، وكانت أيضاً تسرع بالقيام من فراشها الدافئ في برد الشتاء القارس؛ من أجل أن تعد الحساء الدافئ لطفلها.

لكن زوجتك يا صاحبي مأساة بجميع المقاييس؛ لأنها تغرق في نومها تاركه الصبي يستغفلها ويسلب طعام أخته الرضيعة، قال الحكماء “إن المال السائب يعلم السرقة” وهو قول حقيقي وواقعي، ويتأكد صدقه كل يوم في حياتنا، وبتطبيقه على زوجتك الغفلة، والغفلة هي الأم التي تسمح بسرقة جرعات من اللبن الصناعي، قبل أن تصل إلى فم طفلة ما زالت في عامها الأول، لا يمكن أن تؤتمن على مصيرها في مستقبل الأيام.

وقد قلت يا صديقي أنت من كنت تقوم بعمل الرضاعات للطفلة تطوعاً منك، إذ كنت تضعها بقربها، وفي إحدى الليالي بينما كنت تبحث عن عود ثقاب تشعل به سيجارتك وحينما عدت وجدت أن عبوة اللبن الصناعي قد تلاشت على الآخر، والطفلة تبكي بحرقة والوعاء الفارغ، بينما كان الولد الذي بدا لك أنه نائم، وهو في الحقيقة يداري جرمه متقلبًا في الفراش.

ألا تعلم يا صديقي أنه في كل يوم كنت تمر به في حياتك، كان يؤكد لك صدق ما سبق وأن قرأته من أن العالم منقسم إلى مظلومين وظلمة مقتولين وقتلة حاكمين ومحكومين فقراء، وقد دفنت تحت التراب مواهبهم وقدراتهم، وأشخاص أغنياء أكثرهم أغبياء إذ يباهون ويتيهون لأنهم يساهمون إلى حد كبير في إحلال الفساد في العالم.

ولم يقف الأمر على ذلك فقط بل تذكر ذات ليلة أنك قمت بأخذ الصبي حتى تنام أنت وهو في غرفة لوحدكما، وقد كان ذلك خلافًا لاعتيادك النوم منفردًا، حيث تعمد في محاولة أخرى وقام من فراشه في منتصف الليل وخرج من الغرفة وصدف أنك شعرت بحركته، وسألته عن وجهته، فأجابك بأنه ذاهب لقضاء حاجته في دورة المياه، فتفرح وتتوهم أنه تعلم أخيرًا كيفية وجوب المحافظة على نظافة فراشه.

وفي تلك اللحظة كنت تتقلب ولا تشغل بالك في أول الأمر بمتابعة خطواته وإلى أن يريد الذهاب تماماً، حتى بعد ذلك اكتشفت بنفسك أنه يذهب إلى الغرفة الأخرى مثل لص محترف؛ وذلك حتى يستلب وجبة الرضيعة، وقد أدركت ذلك حين صحوت مرة على بكاء الطفلة، وذهبت لتهدئتها بينما كانت زوجتك تغرق كالعادة في النوم، لتلاحظ ابتلاع وجبتها التي كنت قد أعددتها بنفسك للتو.

وحينها شعرت بالغضب وأيقظت زوجتك حتى تفهمها أنه من واجبها أن تحمي ابنتها الرضيعة ووجبتها من لصوصية الولد، لكنها قامت بالسخرية من فكرتك وأنكرت ذلك، فشرحت لها صدق ما كان من ابتلاع غذاء الطفلة، فضحكت وفسرت لك الأمر على أنه نوع من أنانية الأطفال وهذا من الأمور الشائعة بين الأطفال، ضحكت أنت كذلك واعتبرت الأمر نكتة وساذج، ورحت تقص على مسامع الأصدقاء والأهل حتى تسمع ضحكاتهم أيضاً، وفاتك أمر مهم جداً للغاية ألا وهو أن الأنانية شعور إنساني لا ينتهي في مرحلة الطفولة على الاطلاق، بل كان يبدأ منها ويستفحل خطره في الزمن القادم.


شارك المقالة: