قصة استطراد قصير

اقرأ في هذا المقال


تُعتبر هذه القصة من القصص التي صدرت عن الفيلسوف والأديب الفرنسي فرنسوا ماري أوريه، والذي يشتهر باسم فولتير، وقد تناول الكاتب في مضمون القصة الحديث حول عدة محاور وأولها هو الاستغلال والاستخفاف بالآخرين، والمحور الآخر هو عدم وضع الثقة بالآخرين بشكل سريع دون التأكد في الحقيقة من طبيعتهم، وأشاد الكاتب من خلال القصة أنه يتوجب على الإنسان الحذر من تصديق كل ما يتفوه به الآخرين.

قصة استطراد قصير

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول أحد الأبنية التي كانت مخصصة من أجل أن تكون مركز ومأوى للأشخاص المصابين بالعمى في مدينة باريس، وقد كان يطلق على ذلك المبنى اسم الكانزفان، وقد كان يقصد بالاسم الذي يحمله ذلك البناء هو العدد الثلاثمائة؛ وقد كان يدل هذا الاسم على أن هذا المبنى أو المركز لا يمكنه أن يستوعب أكثر من ثلاثمائة أعمى، كانوا كافة العميان في ذلك المبنى على قدم المساواة والعدل فيما بينهم، بحيث لم يكن يتم التخصيص شيء لشخص دون غيره أو الزيادة مثلاً وتخصيص أحد بوجبات غذاء أكثر من غيره، فالجميع تتم معاملتهم وتقديم الخدمات لهم مثل بعضهم البعض، كما كان تتم إدارة كامل شؤونهم مهما كانت كبيرة أو صغيرة بالاعتماد على التصويت الجماعي.

وكانوا هؤلاء العميان يمتلكون طابع حسي كبير جداً، إذ أنهم كانوا يتعاملون بالنقود في البيع والشراء فيما بينهم، وكان حسهم يشعرهم بنوع النقود التي يستخدمونها إذا كانت نقود نحاسية أم نقود فضية، كما كانوا يميزون بحاسة شم قوية تزيد أضعاف مضاعفة عن حاسة الشم لدى الأشخاص المبصرين، حيث أنهم كانوا يستطيعوا أن يميزوا بين جميع أنواع الشراب التي تقدم لهم، وحين يتم تقديم الشراب من خلال شم الرائحة يختار كل شخص منهم مشروبه المفضل.

كانت تلك الفئة البشرية لم يمتلك أي منهم أي نقص في أي من حواسه الأربعة المتبقية، وقد كانت تتم بينهم مناظرة طوال الوقت في أي منهما يمتلك حاسة شم أقوى أو من هو لديه طابع حسي في تمييز الأشياء من حوله أكثر من الآخر، وقد كانوا على معرفة تامة بما يدور حولهم والأشياء والأغراض المحيطة بهم في ذلك المبنى، حيث حفظوا كل جزء من أجزائه وكل ركن من أركانه، وقد عاشوا في ذلك المبنى مطمئنين راضيين بحالهم وموفقين في كافة أمورهم، وقد كان يضرب المثل بحالة السكون والهدوء والطمأنينة التي يشعر بها سكان ذلك المبنى، إذ لم يكن يعرف الاضطراب والتوتر والقلق طريقهم إليهم.

وفي يوم من الأيام قام أحد الأساتذة المقيمين في ذلك المبنى وزعم أن لديه العديد من التصورات والتي تبدو واضحة بشكل جلي حول حاسة البصر، وحين تحدث في ذلك الموضوع سرعان ما وجد من يصغي إليه، وبناءً على هذا حاول سريعاً أن يشغل الأفكار، وبدأ بتجميع حوله حشود من المناصرين والمتحمسين للحديث، وقد أوصل بهم إلى أن ينصبوه في النهاية وينتخبوه كرئيس عليهم.

ومنذ ذلك الوقت وهو يطلق ويفرض عليهم العديد من الأحكام، وقد بدأ يتطلع إليهم بفوقية وقد بدأ يفرض سيطرته على الجميع مدعي أنه يعلم بنظرية حول الألوان، وبقي حال المبنى يسير على هذا النهج تحت قيادة ذلك الرئيس دون أي اعتراض أو حتى مقاومة أحكامه، ولهذا بدأت حال المبنى تسوء في كل يوم أكثر مما سبقه، إلا أن بدأ الاضطراب والتوتر يتغلغل داخل المبنى وبين تلك الفئة من العميان.

وقد كان أول من بدأ به ذلك الرئيس الديكتاتوري هو أن قام بتأسيس مجلس خاص به، وقد صرح أمام تلك الجماعة أنه من خلال ذلك المجلس سوف يقوم بإدارة شؤون المبنى وتدبر أموره، ولكن في الحقيقة كان ذلك المجلس هو مكان مصغر يتم من خلاله التحكم بالتبرعات الخيرية التي يحصل عليها هؤلاء العميان من الخارج، وجعله كوسيلة تحت يديه من أجل أخذ الحرية بالتحكم بكافة التبرعات، وفي ذلك الوقت كان يرى أنه من خلال ذلك لا يمكن لأحد أن يجرؤ أو يتجاسر على مقاومته.

وفي أحد الأيام صرح بأن الملابس التي يتم تخصيصها إلى الجماعة الذين أنشأوا الكانزفان، هي ما تتميز باللون الأبيض، وبالفعل صدقه العميان ولم يعد لهم حديث سوى عن تلك الملابس البيضاء الجميلة التي يلبسها العمال في المبنى، ولكن في الحقيقة لم يكن أي عامل من هؤلاء العمال في الأصل يرتدي ملابس ذات لون أبيض.

وحينما كان العميان يخرجون إلى المجتمع الخارجي يكثرون من الحديث حول تلك الملابس ذات اللون الأبيض، ويسمعهم أحد من الناس المبصرين كانوا يسخرون منهم ويستهزؤون بكيف أن تم خدعهم، وفي أحد الأيام توجهوا نحو رئيسهم وأخبروا أن كافة الناس في الخارج يسخرون منهم حين يتحدثون عن اللون الأبيض الذي يتميز به ملابس العمال، ولكن في تلك اللحظة ثار بهم الديكتاتور وأساء استقبالهم.

ومنذ ذلك اليوم وخوفاً من أن يكشوا حقيقته بدأ يندد بهم بأنهم من أصحاب البدع والخرافات، وأنهم من الأشخاص الذين ينطلقون مع الأفكار المغالية، وأنهم أصحاب شخصيات مارقة ولا تروق له هذا النوع من الشخصيات، وأنهم من الذين يستسلمون بشكل سريع لإغواء الآراء الضالة والكاذبة، التي يصرحون بها الناس المبصرين، وأنهم بسبب سماعهم إلى حديث المبصرين المضللين تجرأوا وجسروا على التشكك بمعصومية ومصداقية معلمهم ورئيسهم الأفخم، وجراء تلك الخلافات التي دارت بينهم انقسموا العميان إلى حزبين.

وعلى إثر ما حدث عزم الرئيس الديكتاتور على أن يقوم بالتخلص من كل تلك المشاكل، وذلك من خلال إصدار مرسوم، وقد كان ذلك المرسوم ينص على أن ثيابهم التي يرتدونها ذات لون أحمر، مع العلم بأن تلك الثياب لم يكن بينها في الحقيقة أي ثوب به لون أحمر، وحين ذهبوا إلى الخارج وتحدثوا بذلك الأمر أصبحوا عرضة للسخرية والاستهزاء والسخافة من عقولهم.

وكيف أنهم كانوا في السابق ذو حكمة وبصيرة ووعي وإدراك، وكيف أنهم أصبحوا بسبب ذلك الرئيس في الوقت الحاضر مغفلين ويتم الكذب والتعسف عليهم، وفي كل يوم يزداد استغلالهم أكثر فأكثر، وحينما سمع الرئيس الديكتاتور بذلك أصيب بحالة من الهياج المسعور، وقد أصبحت تلك الحالة تسيطر على كافة العميان في ذلك المبنى مما جعلهم يدخلون في عراك طويل، ولم يحصل أي وفاق بينهم إلا بعد تم التوصل إلى قرار بعدم تقديم أي تصريح لجميع العميان وصرف النظر عن إعطاء أي رأي حاسم حول ملابسهم، واستمر الديكتاتوري في استغلالهم وطغيانه عليهم.

المصدر: كتاب قصص وحكايات فولتير من الأدب العالمي


شارك المقالة: