قصة الحداد للكاتب إميل فرانسوا زولا

اقرأ في هذا المقال


تُعتبر هذه القصة من روائع القصص القصيرة التي دوّنت من أعمال الكاتب الشهير إميل فرانسوا زولا، وقد تناولت القصة في مضمونها الحديث حول حالة يأس واكتئاب مرّ بها إحدى الأشخاص، وحينما همّ في الطرقات وصل إلى مشغل متخصص في الحدادة، وبعد أن قضى ما يقارب على العام في الإقامة في ذلك المشغل ورؤية مدى عمل الحدادة الشاق تسللت منه الآلام وشعر بالنقاهة.

قصة الحداد

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول شخص يروي سيرته الذاتية فيقول: أقمت لمدة تقارب على العام عند الحداد، وقد كان ذلك العام فترة نقاهة كاملة، حيث أنني في تلك الفترة قد خسرت للتو قلبي كما أنني فقدت عقلي ومضيت هائم على وجهي أبحث عن بقعة سلام وعمل أستعيد به بأسي ورجولتي.

حيث أنني في ليلة من الليالي بينما كنت أسير في الطرقات لمحت بعد أن تجاوزت القرية أحد المشاغل المخصصة في عمل الحدادة، وقد كان ذلك المشغل معزول ومتوقد ويقع عند مفترق لأربعة من الدروب، وحينما وصلت عند باب ذلك المشغل كان الوهج شديد، حتى أن باب المشغل العريض كان مشرعاً على مصرعيه ومن شدة لهبه كان قد وصل إلى التقاطع، كما أن البخار في ذلك الوقت كان يتصاعد من أشجار الصفصاف المصطفة على الجانب المقابل على طول الطريق، وفي تلك الأثناء في البعيد ووسط عذوبة الغسق كانت هناك موضوعة المطارق بشكل منتظم على مسافة تقارب على الكيلو مترين، وتبدو أنها مثل فوج خيالة يقترب من المكان جاراً خلفه أسلحته.

وفي ذلك المكان تحت الباب المشرع وسط النور والضوضاء والرعد وارتجاجه، توقفت لبرهة من الوقت وهي تغمرني السعادة وقد وجدت ما يواسيني في تأمل هذا المشغل ومعاينته بدأت يدا الرجل تلويان القضبان الحمراء وتسطحهما، وقد كانت تلك هي المرة الأولى التي رأيت بها الحداد، وفي تلك الليلة من ليالي فصل الخريف كان الحداد يقوم بسباكة شفرة محراث، كما كان يرتدي قميص مفتوح من جهة الصدر.

وفي تلك الأثناء لاحظت خشونة صدر الحداد، إذ كانت ضلوعه تبرز مع كل نفس يأخذه وقد هيكل شفرة المحراث من المعدن، والذي يبدو أنه مجبول بالمحن والتجارب، وقد كان إلى جانب الحداد ابنته والتي بدورها كانت تترنح على أصوات المطرقة التي كانت يطرق بها بيديه، وفي ذات الوقت كان ابن الحداد يمسك الحديد الملتهب بطرف الملقط ويطرقه من جانبه مسدد ضربات تدل على أمور مكبوتة يكتمها، وتجسدها شقيقته برقصة باهرة.

ولكنه الآنسة ابنة الحداد بشكل رزين كانت تواصل ترنحاتها وتنفض بين الحين والآخر فستانها وتطبع كعبي حذائها في الشفرة التي تنحتها هي كلما ضربت السندان وارتدت عليه، كما كان هناك شعلة نازفة تسيل إلى أن تصل الأرض وتلقي بضوئها على عظام جسد عاملان، بينما كان يتطاول ظل أجسادهم الضخمان في مختلف زوايا المشغل الغارقة في عتمة مبهمة، وفي لحظة ما توقف الحداد عن العمل واتكئ على ذيل المطرقة وقطرات العرق تنساب من جبينه، وبينما كان يمسحها كنت أسمع الأنفاس المتصاعدة من بين ضلوعه.

وفي ذلك الوقت تحدثت مع الحداد وطلبت منه مكان أبيت به، وإذ به يعرض علي غرفة كانت تقع في الطابق العلوي من منزله الذي يوجد فوق المشغل، ومنذ أن أقمت في تلك الغرفة وأنا ابدأ نهاري في تمام الساعة الخامسة قبل طلوع الفجر، حيث أنني أستيقظ على قهقهة المنزل برمته الذي يضج طوال النهار بالمرح الصاخب، كما كانت المطارق تترنح وتصل أصواتها حتى غرفتي.

وبين الحين والآخر كانت ابنة الحداد تقدم إلى غرفتي وترمي بي خارج سريري وتعيرني بالخمول، كانت الغرفة التي أقيم بها لا يوجد بها الكثير من الأدوات المنزلية، حيث أنها تحتوي على خزانة طويلة وكبيرة بالإضافة إلى طاولة خشبية ذات لون أبيض وكرسي، وفي لحظة من اللحظات بدأت كل الأغراض في الغرفة ترج بشكل مخيف، وحين أسرعت بالنزول إلى أسفل في تلك الساعة المبكرة لأرى ما يحدث وجدت المشبك أصبح متوهج والمنفاخ بدأ يهدر ويتصاعد منه لهب ذو لون أزرق ووردي ويبدو كأنه كرة كوكب تلمع تحت الريح وتتلاعب بالجمر، وهنا كان الحداد يتجهز لعمله.

وأول ما قام به هو تحريك قطع من الحديد في مختلف زوايا المشغل، ويقوم بتقليب العربات ويتفحص عجلاتها، وما أن انتبه لوجودي حتى وضع يديه على جانبيه ويصدع بضحكته التي تشق فمه حتى تصل إلى أذنيه، وقد كان في تلك اللحظة يشعر بالبهجة أنه طردني من سريري في الخامسة صباحاً، وحينها وضع يديه الضخمتان على كتفي وكأنه بجانب طفل صغير وانحنى نحو أذني وهمس بهما: إن صحتي اشتدت منذ أن انتقلت للعيش بين حدائده، ومنذ ذلك اليوم ونحن نتناول الشراب معاً على قعر عربة قديمة مقلوبة.

ومنذ ذلك اليوم أخذت أقضي معظم أوقات النهار في مشغل الحداد، وأكثر ما كنت أقضي أوقاتي في فصل الشتاء، وقد بدأت أقضي معظم ساعاتي بكاملها هناك، كنت أتبع عمله بكل اهتمام، حيث كنت أشاهد الصراع المتواصل الذي يخوضه الحداد مع الحديد الخام إذ يدلكه كما يشاء، كما كان يفتنني بجميع أعماله وكأنني أشاهد مسرحية عظيمة وجميلة، إذ كنت أتابع المعدن من مرحلة الكور إلى مرحلة السندان، وقد كنت أراقبه بكل ذهول وهو يتلوى ويتمدد بليونة الشمع تحت وطأة مجهود العامل القاهر.

ومضيت في ذلك المشغل أيام طوال، ولكنني لم أسمع الحداد في يوم من الأيام يشتكي، وقد كنت على الدوام أشاهده بعد أن يقضي يومه في طرق الحديد على مدار أربع عشرة ساعة، وحين يحل المساء يضحك بضحكته التي تتسم بالطيبة والمرح وبدأ بفرك ذراعيه راضياً بحاله ووضعه، فلم يظهر عليه الحزن أو التعب والارهاق، وفي فصل الشتاء كان الجو دافئ في مشغله، بينما في فصل الصيف كان يقوم بفتح الباب على مصراعيه ويترك الهواء يتغلغل إلى الداخل.

كان الحداد يحب المزح كثيرًا، ففي الكثير من الأحيان كان يصرح لي أن كافة الأراضي في القرية هي في الحقيقة ملكاً له؛ وذلك لأن مشغل الحداد يمد أراضي القرية بأكملها بالمحاريث، وقد مضى أجداده على هذا الحال ما يقارب مئتي عام، كان يصرح بذلك وهو يشعر بالفخر والاعتزاز بذلك، ويقول أنه لولاه ما نبت زرع في الأراضي، وحينما كان الحقل يخضر في شهر أيار ويصفر في شهر تموز يكون ممتن له بذلك، ويشير إلى أنه كالحرير المتوج.

كان الحداد يكن المحبة للمحاصيل وكأنهن بناته وينبهر بأشعة الشمس الساطعة، وفي تلك الأثناء رفع قبضته مهددًا غيوم البرد التي تنشق ملقية حمولتها، ويشير لي في الكثير من الأحيان حول قطعة أرض في مكان على بعد النظر وتبدو أصغر مساحة من قفا سترته، ويقص علي في أي سنة تماماً تم سبك محراثها.

وفي النهاية كنت أرى بأم عيني كم أن الحداد إنسان رائع، فعضلاته المتصلبة تجسد أحجام النحت الحديث وخطوط يديه يبرز بها فن العناء الذي يدل على الأجساد الميتة في عصر الإغريقيين، وإنني أرى به بطل العمل العظيم ابن هذا القرن الذي لا يعرف الكلل والملل، وأخيراً هنا في مشغل الحداد في وسط كافة تلك المحاريث شفيت من آلامي للأبد من داء البلادة والتشكيك الذي كان يلم بي.


شارك المقالة: