تُعتبر هذه القصة من روائع الأدب التي صدرت عن الأديب العالمي الشهير أنطون تشيخوف، حيث تناول في مضمونها الحديث حول إحدى القضايا الفكرية والموضوعات الاجتماعية والأخلاقية التي تسير في مختلف المجتمعات الدولية، وقد تمحور الحديث حول موضوع الرياء الذي يظهره العديد من الأحياء في مختلف المناسبات الاجتماعية مثل المآتم والأعراس، إذ يتم استدعاء خطيب لإلقاء محاضرة في الأخلاق والفضائل، وإذ تجده يتفوه بألفاظ ويتلاعب بالكلمات مما يدفعه للخطأ والوقوع في الكثير من العثرات، وإن دل ذلك على شيء، فإنه يدل على الرياء الطاغي في المجتمعات.
قصة الخطيب
في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة في صباح أحد الأيام، حيث أنه في ذلك اليوم توفي رجل يدعى بيلو كيريل ايفانفتش، والذي كان يعمل في الأصل ككاتب في إحدى الجامعات المشهورة في المدينة، وقد كان سبب وفاته هو إدمانه على الممنوعات، كان السيد بيلو لديه سمعة سيئة للغاية بين مختلف فئات المجتمع، وفي ذلك اليوم بينما كان موكب الجنازة في طريقه باتجاه المقبرة، قفز أحد أصدقاء المقربين من المتوفي والذي يدعى السيد بيلافسكي إلى العربة وذهب مسرعاً ويبحث عن سيد يدعى العجوز جرجوري بتروفتش زبوكين، وقد كان ذلك العجوز رجل محبوب لكل من يعرفه ويتمتع بهيبة وعلى قدر كبير من العلم، كما كان يتمتع بموهبة عظيمة تبرز في الارتجال بالأحاديث، إذ كان يتحدث كيف شاء ومتى يشاء.
وقد كان السيد العجوز حينما تتغلغل بداخله الحمية تسيل من فمه الألفاظ وكأنها تنساب المياه الصافية من الجداول، ويستخرج من قاموسه اللغوي بكلمات وفيرة وغزيرة وعلى قدر عالي من الثقافة، كما كان يتميز بأسلوب بليغ وفصيح يفيض بكثير من الإسهاب في المعنى، ولذلك كان يلجأ إليه الكثير من الناس في معظم المناسبات والحفلات، وأول ما التقى ببلافسكي بالسيد جرجوري قال له: لقد أتيت إلى طلبك أيها العجوز ارتد قبعتك وسترتك أريدك في أمر عاجل، إذ توفي أحد الأصدقاء القريبين مني والمشيعين على وشك تشيعه.
وفي مثل تلك اللحظات ينبغي علينا أن نكون مقربين من أصدقائنا، ولذلك يتوجب علينا أن نودعه بعدد من الكلمات الجميلة واللطيفة، فأنت أيها العجوز الطيب أملنا الوحيد في هذه المدينة، وهذا المتوفى له شأن كبير في المجتمع ويستحق ما يقال عنه، كما استطرد السيد بيلافسكي وقال للعجوز: كما سوف يكون هناك وجبة غداء والكثير من الفطائر وسوف تركب العربة بالمجان، فهيا عجل يا شيخنا فكل ما هو مطلوب منك أن تقوم بإلقاء ببعض الألفاظ والكلمات الحزينة عند دفن المتوفي في المقبرة، وبالفعل وافق العجوز وسرعان ما راح يعبث في غدائر شعره وأظهر ملامح الحزن والألم على فقدان الرجل على وجهه وانطلق بصحبة ببلافسكي.
وفي تلك الأثناء بينما اتجه العجوز نحو العربة وأخذ بالإمساك بها من أجل اعتلائها قال: لكنني أعلم من هو صديقكم، فهو ذلك الرجل الخبيث والشرير، وإنني لم أصادف نظيره في حياتي، فكان الله في عونه، وهنا رد عليه السيد بيلافسكي وقال: لا مجال لذكر الميت سوى بالأمور والأفعال الحسنة، ثم همّ كلاهم ولحقوا بموكب الجنازة وراحوا يسيرون أمام النعش، وعند الوصول إلى المقبرة راح الجميع يصلون إلى جانب الجثة وأخذت زوجته وحماته وشقيقتها يبكون ويذرفون الدموع مراعاة للعادات والتقاليد المتعارف عليها في المدينة.
ثم جاءت اللحظة التي تقدم بها العجوز الشيخ بعد أن خيم الصمت على جميع الموجودين، وبدأ بالحديث وقال: لا أصدق ما تشاهده عيناي وما تسمعه أذني إن هذا ما هو سوى حلم وكابوس مزعج، هذا القبر وهذه الدموع وهذه التنهدات أذلك كله وهم، لا وا أسفاه ما هذا إنني أشعر أنني بحلم، ولكن هذه الحقيقة فلا يمكن أن تخدعنا أعيننا، لقد قضى إلى مثواه الأخير من كان بيننا منذ لحظات قليلة، من كان أمام أعيننا كالنحلة الدؤوب لا يقر قرارها حتى يخرج منها العسل، لقد وضع الآن تحت التراب، إنه خسارة لا يمكن لأحد أن يعوض مكانه، ترى من سوف يخلف منصبه ويكون خليفة له.
وواصل الشيخ العجوز حديثه وثناءه للمتوفي، إلا أن الهمس قد شاع بين المشيعين، ولكن على الرغم من ذلك فقد أرضى حديثه الجميع وجعل بعض الدموع تنهمر، ولكن بدت معظم الفقرات غريبة بالنسبة إليهم، إذ لا يدركون السبب الذي جعل الخطيب يقول بروكوفي اسببتسن بدل من ذكر اسم المتوفي الحقيقي كيريل ايفنفتسن، كما أن الجميع كانوا يعلمون العراك والشجار الذي كان يدور بين المتوفي وزوجته بشكل مستمر، وله لحية تتميز باللون الأحمر وذلك الأمر يتنافى تماماً مع قوله أنه حليق الوجه.
وقد كان ذلك الأمر قد أعجز الجميع عن فهم بعض أقوال الخطيب، وعلى الرغم من إدراك الخطيب لهذا العجز عن فهم كلامه من قِبل الحضور، إلا أن الخطيب قد استمر في خطبته، ولكن في لحظة ما لاحظ المستمعون أن الخطيب نفسه بدأ يعتريه شيء من الاستغراب والدهشة، ولم يلبث قليلاً حتى توقف عن الكلام والحديث ثم التفت نحو صديقة ببلافسكي وقال له وهو يحملق في فزع من أمره: لقد شاهدت المتوفي بأم عيني أنه ما زال على قيد الحياة.
وفي تلك اللحظة رد عليه السيد بيلافسكي وقال: من هو الذي لا زال على قيد الحياة، هل تقصد السيد بروكوفي اسبتسن، فرد الشيخ: نعم ها هو قائم عند حجارة القبر، فقال له بيلافسكي: إنما الذي توفي هو رجل يدعى كيريل إيفانفتسن، أما الأول فهو كاتب الجامعة وقد نقل للمنطقة الثانية من أجل أن يعمل في منصب رئيس للمكتبة، وهنا قال الشيخ العجوز: يا للشيطان الذي أوحي بذلك الأمر، ثم التفت إلى القبر وأكمل حديثه، بينما السيد بروكوفي اسبتسن كبير الكتبة الكهل ذو الوجه الحليق، والذي كان في الحقيقة متواجد بالقرب من حجارة القبر بالفعل، كما كان ينظر للعجوز بشكل مشمئز ورفاقه من جانبه يتهامسون ويقولون: أتريد أن تدفن رجلًا وهو يفيض بالحياة.
وفي النهاية اقترب السيد بروكوفي من الرجل العجوز وقال له: هذا الكلام لا يليق بك أيها الشيخ إن حديثك هذا له قيمته في حال كان رجل قد ودع الحياة ومات، بينما إن كان يمت إلى رجل على قيد الحياة فهو كلام فارغ واستهزاء وساخر، كم تحدثت بشكل مطول عن روحي أيها العجوز الأبله الساذج، وأكمل حديثه بسؤاله: من ذاك الذي دعاك إلى هذه الجنازة لتتحدث عني، ولنفرض أنه كذلك ما الذي عاد عليك أيها الأبله عن وصف محياي على الملأ إنها إهانة لن أعفرها لك مدى الحياة.