قصة الدرويش

اقرأ في هذا المقال


يُعتبر المؤلف والأديب ناصر فاضلوف وهو من مواليد دولة أوزبكستان من أبرز الكُتاب الذين برزوا في القرن التاسع عشر، كما لاقت الروايات والقصص التي كان يكتبها صدى واسع حول العالم، وهذا ما جعل الكثير من المؤرخين والمترجمين أن يقوموا بترجمتها إلى اللغة الأوزبكية واللغات العالمية الأخرى، ومن أبرز القصص التي اشتهر بها هي قصة الدرويش.

قصة الدرويش

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول أحد الرجال الذي كان قد اعتاد على الذهاب إلى المسجد القريب من منزله وفي أحد الأيام وعلى غير العادة توجه بعد ذلك إلى مكان خاص به كان ينفرد ويعزل به نفسه عن العامة من الناس في المجتمع؛ حيث في ذلك المكان كان يرغب على متابعة تأملاته التي يجريها بشكل يومي والتي لا تنتهي على الاطلاق.

كما كان في ذلك الوقت يقوم بالاطمئنان على والدته من وقت لآخر في اليوم الواحد، بحيث يكون ذلك قبل أن يتوجه إلى حالة الانعزال والتعبد المستمر الذي كان يقوم به، ولكنه في ذلك اليوم بالتحديد لم يفعل هذا الأمر، وحالما انتهى من صلاته وتعبده سرعان ما هبّ دون أن يسلم على أحد ومغادرة المسجد، وهنا تعجب الجميع من الأمر إنه لم يفعل كهذا شيء مماثل في السابق، وهنا تساءل الجميع أنه لربما هناك شيء مهم جداً.

وبعد دوران الكثير من النقاشات حوله، اتفق الجميع في النهاية أنه رجل غريب الطباع وأفعاله وتصرفاته دائماً على غير العادة، فلا ينبغي أن يتم أخذ تلك الأمور بجدية، فقد كان رجل صالح دائم التسبيح والتفكر في ملكوت الله، على الرغم من كثر سيره من أجل التأمل والتفكر، إلا أنه لم يكن يشعر بآلام في قدميه ولا يطلع إلى الورم المتواجد بهما بكثرة، على الرغم من أنه في بعض الأحيان كان ينزف الدم بشكل كبير منهما، ولكنه لا يشعر بالدم المتدفق، إلا عندما ينظر إليه أحد الأشخاص في الطريق فيجذب الانتباه إلى تلك الحالة التي تصيبه، وحال قدمه التي كانت على الدوام ملطخة بالدماء، فلا يجزع ولا يهتز ولو بمقدار نملة، فالحياة لا تعني له شيئاً أبداً.

وقد كانت عائلته تشير إليه كثيراً من أجل ذلك الأمر، لكن كل من والدته وإخوته قد أصابهم اليأس من محاولاتهم المتكررة معه ولكن دون جدوى ودون فائدة، فقد كانوا يريدون أن يجعلوا منه إنساناً طبيعيًا كغيره من الناس، إذ كان على الدوام شارد الذهن، لا يتناول إلا القليل من الطعام، وقد كان ذلك أثره واضح على جسمه، فقد كان نحيل إلى درجة كبيرة كما أن عينيه جاحظتان وعروق يديه بارزة.

كان ذلك الرجل من الأشخاص الذين لا يتركون السبحة من يدهم على الإطلاق، إذ كان على الدوام يسبح بمسبحته الطويلة، كما كان دائماً يضعها  في عنقه خوفاً من ضياعه منها، وفي أحد المرات بينما كان يجلس في ركن من أركان المسجد بعد صلاة الظهر وقد طغى عليه النعاس ونام قليلاً، وفي ذلك الوقت كانت سبحته معلقة كالعادة في رقبته، وحينها قام أحد الأطفال بسرقتها منه، وهرع مسرعًا قبل أن يشاهده أحد، وعندما نهض ولم يعثر عليها معه قلب الدنيا رأساً على عقب، وثار المجنون يتخبط بسيره في كل مكان، ويطلق كلام غير مفهوم للناس من حوله حتى تم العثور عليها وإعادتها إليه.

لم يكن الرجل مخيف لأي شخص من الأشخاص في تلك المنطقة، بل كان شخص محبوب من قِبل الجميع، ويفرحون به إذا قام بطلب تناول أكل من بيت أحدهم، حتى أنهم أطلقوا عليه اسم درويش، وكانوا قد نسوا اسمه الحقيقي، فقط اسم درويش هو ما كان معبر عن أفعاله وعزلته وتصرفاته والطلاسم التي كان ينطق بها.

وعندما كان قد خرج مسرعاً في ذلك اليوم، والذي أثار الفضول الكثير داخل كل النفوس، فقد ذهب للجلوس على تلك التلة التي اعتاد أن ينادي بها على أشياء وأشخاص لم يشاهدهم أحد سواه في ذلك المكان، كما كان يقوم بتلاوة آيات من القرآن الكريم ويستغفر الله ويسبحه، ثم يدلي بكلام غير مفهوم، وبعدها يضرم في البكاء الشديد على شكل نحب، ويبقى على تلك الحال حتى وقت غروب الشمس، ولولا مشاهدة الناس له وهو يسجد ويسبح بالطريقة التي يعرفوها واعتادوا عليها، لقالوا عنه ملموس من الجن.

وقد كان في بعض الأحيان يصاب بنوبة فجائية إذ يفقد الوعي لفترة ويغمى عليه ما يقرب الربع ساعة، وحينما يصحى من غيبوبته يجد حشد كبير من الناس يلتفون حوله، وهنا يشعر بالراحة ويبتسم لهم ويطلب من الله أن يغفر لهم خطاياهم ويغفر لهم سيئاتهم، وهنا يرجعوا ويتركوه لوحدته وعزلته مرة أخرى.

إن مثل هذه التصرفات كانوا فقد اعتادوا عليها منه، فقد كان يقوم بها بين الحين والآخر بمثلها، لكن في أخر أيامه زادت تلك النوبات كما زاد حالات العزلة مع نفسه، وهنا بدأ الكل يلاحظ ذلك، وكان الجميع يخشى أن يوقع نفسه في مصيبة، فقد كان يتقرب من الله بطريقته الخاصة والتي اختارها لنفسه ويشكو ألمه، إذ كان على الدوام يتضرع لطلب العفو منه وحده، وفجأة يشاهد النور في عتمة الليل، ويشعر بالفرج وسط الضيق الذي لا يستطيع أي شيء أن يوقفه، وفي تلك اللحظة يخيل إليه أنه يرى ملاك يسمع منه كل مكنونه دون أن يتفوه بأي كلمه فيفرح بذلك، ويتوسل إلى هذا الملاك المزعوم حتى لا يغادره فيؤنس به.

وحينما لم يطيق أن يبتعد ذلك الملاك عنه، وضاق خلقه وقف على تلك التلة ويبدأ بالصراخ وينادي عليه بصوت عالي، والناس تتعجب من حاله تلك، وتتساءل أنه معقول أن يكون هذا الإنسان شخص طبيعي مثلنا، هل من الممكن أنه يرى أشياء لم نقوى على مشاهدتها؟ وإن كان ذلك صحيح، فإن العقل إذا أدرك المزيد من حاجته هلك، وهلك صاحبه معه.

وهنا استمر الرجل الدرويش في غضبه فينادي ويصرخ محتجاً على ذهاب ملاكه، وفي النهاية قرر أن يوفر كل ما يبذله من طاقة وصراخ، وأن يقوم بدلاً من ذلك اللحاق بالملاك في هذه المرة، ففي كل المرات السابقة، كان يبتسم له عند صعوده إلى السماء، لكن هذه المرة، لم يعيره الملاك أي اهتمام وحتى لم يلتفت إليه، ولذلك عزم على  اللحاق به.

وحينما عزم على الذهاب خلف الملاك وقع من أعلى التلة إلى الأرض المليئة بالأحجار في الأسفل، وعندها سلم روحه لبارئها، وهنا اجتمع الناس من حوله في محاولة لإنقاذ، ولكن دون فائدة، فقد رحل عن هذه الدنيا مخلفًا وراءه ذكرى جميلة وبريئة، ولن ينساه أحد عايش في تلك الفترة وشاهد الدرويش.


شارك المقالة: