قصة الصعلوك

اقرأ في هذا المقال


تُعتبر هذه القصة من روائع الأدب الفرنسي التي صدرت عن الأديب غي دي موباسان، وقد تناولت في مضمونها الحديث حول حالة شخص تعرض لحادث في يوم من الأيام وأدى به إلى أن يكون شخص مشوه ومعاق، ولم يكن أمامه سوى التسول ليحصل على قوت يومه.

قصة الصعلوك

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول شاب تعرض لحادث ويدعى نيقولا توسان، حيث أنه في أحد الأيام وجده أحد كهنة المنطقة ويدعى السيد بيت ملقى في إحدى الحفر، ومنذ ذلك الوقت أصبح شاب متسول وينشأ بفضل الصداقات والإحسان، ولم يتلقى في أي يوم من الأيام أي نوع من أنواع التعليم، كما تسببت له تلك الحادثة بالعديد من التشوهات في جسده، وقد كان السبب خلف وقوعه في الحفرة هو تقديم الخباز في القرية بعض الكحول في سبيل الضحك والسخرية.

ومنذ ذلك الوقت أصبح متشرداً في الشوارع لا يعرف سوى التسول، وفي حياته السابقة كان ذلك الشاب يقيم في غرفة صغيرة جداً يوجد في أحد المنازل القريبة من منزل سيدة كبيرة في السن، إلا أن تلك السيدة قد توفيت ولم يبقى له أحد، وحينما كان يذهب للتسول في القرية لم يكن أحداً يقدم له شيئاً، على الرغم من أنهم كانوا يعرفون حاله تمام المعرفة، فقد نفذ صبرهم من رؤيته لمدة تقارب على الأربعين عام، وهو ينتقل بين المنازل بجسده المشّوه المرتكز على قوائم خشبية، إلا أنه لم يرغب بمغادرة تلك القرية، فهو لا يعرف مكان آخر في الدنيا غيرها، فلقد رسم حدود لمنطقة تسوله وقد اعتاد ألا يتجاوزها أبداً.

وفي الكثير من الأحيان ينهرون به أهل القرية ويطلبون منه مغادرة القرية وعدم العودة إليها، إلا أنه لم يكن يرد عليهم بأي كلمة تنطق، فالخوف من المجهول كان يسيطر عليه، وأكثر ما يشعره بالريبة هو وجود اثنين من عناصر الشرطة بين الحين والآخر يسيرون في الطرقات، وقد كان حين يلمحهم يسرعان ما تبدو عليه خفة في المشي للبحث عن مكان يختبأ به عنهم، ويلفت حول ذاته ليبدو كرة متدحرجة، على الرغم من أنهم لم يبدو نحوه أي تصرف سيء في يوم من الأيام.

لم يكن يملك المتسول أي مأوى وفي فصل الشتاء كان يندس بنفسه تحت مخازن الحبوب أو داخل اسطبلات الخيول في مهارة لافتة، كما كان ملم بكافة الأمكنة المثقوبة؛ وذلك لأنه كان يلج منها إلى الأبنية، كما أن استخدامه الدائم للعكازات الخشبية أضفى على ساعديه قوة مدهشة، وهذا ما كان يجعله يتسلق بقوة قبضتيه فقط إلى مخازن العلف العالية التي تقع في أعلى المنازل، وفي أغلب الأحيان كان يمضي ما يقارب على الأربعة أو الخمسة أيام دون تجوال في القرية؛ وذلك حينما يكون قد حصل على مئونة كافية خلال جولته.

كانت حياة المتسول عبارة عن حياة وحش الغابة بين جموع البشر، إذ لا يكن المحبة لأحد ولا حتى لديه المعرفة بأحد، وكل ما حصل عليه من القرويين هو الإهمال والعداء، وبالعادة تتم مناداته باسم الجرس؛ وذلك لأنه كان يتأرجح بين عكازيه الخشبيين كما يتأرجح الجرس على حوامله.

وفي أحد الأيام مضى ما يقارب يومين ولم يتناول أي نوع من أنواع الطعام إذ لم يعد أي إنسان يقدم له أي شيء، وقد كره وجوده الجميع ونهروا به من على الأبواب، كما كانت النساء يصرخن نحوه قبل أن يقترب منهن: ألن ترحل من هذه القرية؟، وفي ذلك الوقت كان المتسول قد جال في العديد من الطرق والمنازل دون أن يظفر ولو بكسرة خبز، وبقي أمله الوحيد في الذهاب إلى الطرق المجاورة، لكن كان عليه أن يجتاز ما مسافته ميلين على الطريق العام وهو كان يسيطر عليه الإرهاق والتعب، ولم يعد بمقدوره أن يسير بنفسه، إلا أنه الحاجة والجوع قد أجبراه على جر نفسه.

وقد كان ذلك الوقت في شهر كانون الأول، حيث أن الأجواء كانت تسيطر عليها الريح الباردة، وقد كانت الغيوم تسبح في السماء المنخفضة المعتمة، ومع ذلك كان المتسول يسير على مهل متكئاً على عكازيه وقد أرهقه الجهد وأضناه العطش والجوع، وبين الحين والآخر كان يجلس على جانب الطريق ليأخذ قسطاً من الراحة لدقائق معدودة، وكل ما يجول بتفكيره هي فكرة واحدة أن يحصل على الطعام، ولكن لا يعرف بأيّ وسيلة.

وأول ما التقى المتسول برجل وطلب منه الصدقة، رد عليه: هذا أنت من جديد أيها الصعلوك ألن نتخلص منك يوماً ابتعد عني، وهكذا سار به الأمر إذ قابلوه سكان ذلك الطريق بسوء معاملة وأقفلوا بوجهه الأبواب دون أن يقدموا له شيئاً، ولكن مع كل ذلك تابع جولته بصبر وعناد، فلم يكن أمامه سوى ذلك الحل، وقد بدأ بالصول والجول في المزارع سائراً على تلك الأراضي التي جعلتها الأمطار طرية غير قادر على رفع عكازيه.

وفي ذلك الوقت حينما أنهى زيارته لكافة المنازل التي يعرفها وقع في حفرة أمام باحة تعود ملكيتها إلى شخص يعرف باسم المعلم شيكيه وقد بقي في تلك الحفرة لفترة طويلة دون أي حركة وبطنه تتضور جوعاً، إلا أن تلك الحفرة لم تكن عميقة، إذ بإمكانه رؤية المارة منها، وظل ينتظر أن يتصدق عليه أحدهم، وفي لحظة ما مرت من أمامه دجاجات تبحث عن لقمة عيشها في الأرض، وقد كانت تلك الدجاجات تلتقط بمنقارها حشرات وحبوب من باطن الأرض، ثم تتابع بحثها الدقيق.

وفي تلك الأثناء كان المتسول يراقب عملية بحث الدجاجات عن الطعام دون أن يفكر في شيء آخر، ثم راودته فكرة اخترقت معدته بالأحرى لا عقله، وتلك الفكرة كانت أن إحدى تلك الدجاجات من المؤكد أنها سوف تكون طيبة المذاق لو تم شويها على النار، ولم يعتريه أي فكرة أنه بذلك يقوم بالسرقة، فتناول حجر كان قريب منه وقتل به أقرب دجاجة منه، وحينما حاول الاقتراب من الدجاجة وأخذها تلقى ضربة قوية في ظهره جعلته يفلت عصيّه ويتدحرج بضع خطوات إلى الأمام.

وفي تلك اللحظة شاط غضب المعلم وانقض على هذا الذي سلبه دجاجاته فأشبعه ضرباً، وقد استخدم قبضة يده وركبته في كل أنحاء ذلك المتسول الذي لم يكن يستطيع الدفاع عن نفسه على الإطلاق، حينها وصل رجال المزرعة وزادوا من اللكمات لهذا المتسول، وبعد أن أنهكوه من الضرب حملوه إلى مخزن واحتجزوه هناك، ثم بعد ذلك ذهبوا لاستدعاء الدرك.

وفي تلك الأثناء بقي المتسول ممدداً على الأرض والدم ينزف منه من جهة، ومن جهة أخرى الجوع يعذبه، وحينما حل الليل وبزغ الفجر، وعند فترة الظهيرة وصل الدرك وفتحوا الباب بكل حذر متوقعين مقاومة المتسول؛ وذلك لأن المعلم شيكيه كان قد ادعي بأن المتسول قد هاجمه واضناه ضرباً، وأنه لم يتمكن من الدفاع عن نفسه وأن المتسول ضرب نفسه كذلك، وأول من صاح بالمتسول الجندي وقال: هيا انهض أيها المجرم، لكن المتسول لم يقوى على الحراك قط، وقد حاول مراراً وتكراراً، ولكن لم يفلح، فظن عناصر الشرطة أنه يتظاهر أو يحاول خدعهم ويضمر لهم السوء، وسرعان ما همّ جنديان بتعنيفه بشكل قاسي ووضعاه عنوة على عكازيه.

ومنذ تلك اللحظة وقد تجدد الخوف بداخل المتسول من عناصر الشرطة، وابتعد تائه العقل في الحقول لا يدري ما يفعل وقد وصل به المسير إلى أماكن لم يكن قد وصل إليها في حياته، وكل ما يدور حوله يصيبه بالذعر، وحينها أخبروا عنه السكان مركز المحافظة، وحقد تم الإمساك به.

لم يقوى على النطق بكلمة واحدة، فمنذ العديد من السنين لم يكن يتوجه بالكلام لأحد، وقد وصل إلى مرحلة نسي بها كيف يستخدم لسانه، كما أن فكره كان مشوش بحيث لا يقوى على التعبير بالكلمات، وفي النهاية تم زجه بالسجن، ولم يفكر أياً من عناصر الشرطة أنه يحتاج إلى طعام، وقد تركوه حتى اليوم التالي دون أن يقدموا له أي شيء من طعام أو شراب، لكن حين جاءوا به ليستجوبوه في الصباح الباكر، كما كانت دهشتهم كبيرة حينما وجدوه مرمي على الأرض جثة هامدة.


شارك المقالة: