قصة العازف الأجير

اقرأ في هذا المقال


تُعد هذه القصة من روائع الأعمال الأدبية التي صدرت عن الأديب أنطون تشيخوف، وقد تناول من خلال محتوى القصة الحديث عن الهواة الشباب حتى تحيط بهم ظروف لا تساهم في تقدمهم، بل تجرهم إلى الشعور بالإحباط واليأس.

قصة العازف الأجير

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول الشخصية الرئيسية وهو شاب يدرس في جامعة موسكو، ففي إحدى الليالي بينما يجلس في غرفته المستأجرة في الفندق ومنغمس في كتابة مجموعة من الصور الشعرية الهجائية التي طلبت منه دخل عليه شريكه في الغرفة والذي يدعى بيوتر روبليوف، وفي تلك اللحظات كان يبدو أن بيوتر شاحب الوجه وعينيه حادتين، وكأنهما يشع منهما لهب، وهنا اندهش زميله من رؤيته بتلك الحالة، فسأله قائلًا: لماذا عدت في هذه الليلة مبكراً، فالساعة قد شارفت على الثانية فقط، هل انتهى حفل الزفاف؟

ولكن بيوتر لم يرد عليه بل بدل ملابسه من خلف الحاجز وألقى بنفسه على السرير، وبعد دقائق قليلة سمعه زميله يهمس في نفسه قائلًا: هيا نم أيها الوغد، إذا لم ترغب في النوم فلتذهب إلى الجحيم، وهنا حاول زميله سؤاله مرة أخرى: هل النوم يجافيك؟ فرد عليه: لا أستطيع النوم أكاد أنفجر من شدة الضحك، فالضحك هو ما يمنعني من النوم، وهنا سأل الزميل: وما سبب ضحكك؟، فرد قائلًا: لقد وقع حادثة لعينة مضحكة.

وفي تلك الأثناء نهض بيوتر من سريره ضاحكًا وجلس إلى جوار زميله، ثم قال: اليوم تعرضت لفضيحة من الطراز الأول، ولم يكن قد تعرضت لمثل ذلك في يوم من الأيام، والفضيحة من أرقى نوع، ثم قام يتخبط في الغرفة هناك وهناك وقال: لقد تم طردت يا أخي على مرى الجميع، وهنا اندهش صديقة وقال: ما هذا الهراء الذي تتحدث به، لا يمكن ذلك، فرد بيوتر: أقسم أنهم طردوني، وفي تلك اللحظة كانت ملامحه مستهلكة، وهنا أشار بيوتر لصديقه وقال: اترك ما بين يديك، سوف أسرد لك ما حصل معي سأدلو بكل ما في جوفي، فلربما أهدأ قليلاً وأكف عن الضحك حول ما حدث معي.

اليوم تمت دعوتي من أجل العزف على البيانو من قِبل إحدى العائلات، وهناك كان يقيم رجل يدعى بريس فيستوف وهو متقاعد من الخدمة العسكرية برتبة مقدم، وهو رجل متزوج من فتاة الكونت يدعى فون كراخ، وقد لبيت الدعوة وقد كان الوقت في تمام الساعة التاسعة، وأثناء ذهابي إلى هناك كانت الطرق جميعها فائضة بالأوحال والمطر مستمر في السقوط، والأجواء ضبابية مما جعلني أشعر بالقرف وهنا قاطعه صديقه فقال: اختصر واترك السيكولوجيات على جانب وأكمل ما حدث معك.

فرد بيوتر: حسنًا، وحين وصلت إلى الحفل كان العروسان والضيوف قد بدأوا في تناول الفواكه بعد أن تم عقد القرآن، وذهبت بدوري إلى موقعي أمام آلة البيانو، وجلست في انتظار بدء الرقص، وفي تلك الأثناء شاهدني صاحب المنزل، وصاح بأعلى صوته أمام الجميع وقال: وصلت يا حضرت العازف أعزف بطريقة جيده وإياك أن تشرب حتى لا تفقد وعيك، وهنا أجبته: لقد تعودت على مثل هذه التحيات ولم تعد الأمر يثير غضبي، وهنا تساءلت: من أنا، عازف أجير؟ أم نادل يجيد العزف، إذ أن جميع التجار حينما يدعوني إلى حفلاتهم تتم مناداتي بـ أنت، وحينما أنتهي من العزف يقدمون لي البقشيش، لم أكن أشعر بالإهانة، فهذا هو عملي.

وفي تلك الفترة لحين بدء الرقص أخذت بتمرين اصابعي على آلة البيانو، وبعد لحظات بدأت بعملي، وهنا سمعت شخصاً خلفي يدندن بالعزف، فالتفتت إلى الخلف فإذا هي فتاة، وقد كانت تنظر إلى البيانو بكل إعجاب، فقلت لها: لم أكن أعرف يا آنستي أن هناك أحداً يستمع إليّ، فأجابتني الفتاة: إن المعزوفة من أجمل ما سمعت، فسألتها: هل تحبين الموسيقى؟ ثم بدأنا نتناول أطراف الحديث، وهنا اتضح أن الفتاة تحب كثرة الكلام والثرثرة، وسرعان ما أخذت بنعت جيل اليوم؛ وذلك لأنه لا يهتم بالموسيقى الجادة، وهنا أردت أن أظهر أمامها بكبريائي وبدأت بالفلسفة وقلت: إن سبب عدم اكتراث شباب اليوم يعود في الأصل إلى اختفاء الطموح لديهم إلى القيم الجمالية.

فقاطع صديقه حديثه وقال: وأين الفضيحة في ذلك؟ أم أنك في الحقيقة وقعت في حب تلك الفتاة، فرد بيوتر بقوله: وهل الحب فضيحة يا صديقي؟!، إنني فضحت على الملا، إذ بينما كنت أتحدث مع لاحظت أنه جلس مجموعة أشخاص خلفي وراحوا يتهامسون فيما بينهم، ومن بين حديثهم سمعت كلمة عازف أجير وضحكات ساخرة واستهزاء، وهنا أدرك أن محور حديثهم كان حولي.

ولكن أكملت حديثي مع الفتاة ولم ألقي لهم أي اهتمام، وإذ بالفتاة انهالت بالانتقادات للملحنين والعازفين المعاصرين، وكما تعلم يا صديقي أن شباب وشابات اليوم لا يعرفون من أساليب العزف على الموسيقى سوى السلم الموسيقي، وفي ذات الوقت تراهم مستعدين لكتابة كم هائل من المقالات النقدية للموسيقى، وهنا كنت أصغي إليها دون أي اعتراض على حديثها، إذ كنت استمتع برؤية مخلوق غاضب يشغل مخه، ولكن في ذات الوقت كان الهمس من خلفي ما زال قائم.

وفي لحظة ما اقتربت منا سيدة ترتدي ملابس تشبه شكل الطاؤوس، وقد كانت تلك السيدة تبدو أنها من أقارب الفتاة، ودون أن تنظر إليّ همست في أذن الفتاة في أمر ما، وهنا أخذت الفتاة بإخفاء وجهها بكفيها واندفعت بعيداً عني، وكأنها تعرضت للدغة أفعى، وهنا قلت في نفسي: ماذا حدث؟ وقد دارت في ذهني الشكوك أن هناك خطب في ملابسي، فتوجهت نحو زاوية مخفية عن الأنظار وأخذت بتفقد ملابسي، ولكن كل شيء كان على ما يرام ولا يوجد هناك أي شيء قد تمزق، وفي تلك الأثناء اقتربت مني عجوز وقالت: من الأفضل لك أن تلك السيدة تحدثت إلى الفتاة وأبعدتها عنك، وإلا كانت بعد قليل سوف تضع يدها بيدك وتخطو هناك وهناك، وأنت مجرد عازف أجير، وهنا قاطعه صديقه وقال: لماذا كل ذلك الاهتمام بالأمر، فلا يوجد بهذا أي فضيحة.

فأجابه بيوتر: عليك أن تنظر حتى النهاية يا صديقي، وفي تلك الأثناء عدت وبدأت بالعزف من جديد، وهنا سيطر عليّ الضحك على تلك الفتاة، ولكن في تلك اللحظة بدأت أشعر أن هناك ما ينغز في قلبي، وسيطر علي الشعور بالحزن والقرف من كل شيء، حاولت عدم التفكير في الأمر، إلا أن هناك شيء يقبض على قلبي بقوة، ثم يصعد إلى حلقي كالغصة، حاولت مقاومة الأمر، ولكن بدأت تدور في ذهني كم هائل من الأفكار السخيفة، ومن أبرز تلك الأفكار هو أنني كيف أصبحت شخص تافه، إذ أنني قصدت مدينة موسكو قاطعًا مسافة طويلة من أجل أن أحقق حلمي في أن أصبح موسيقار أو عازف بيانو مشهور، ولكنني أصبحت عازف أجير.

وكل ما أفكر في ذلك الأمر أغطوا في الضحك، ولكن في ذات الوقت أشعر بالغثيان وأتذكرك وأقول: ها هو صديقي في الغرفة جالس يسطر بكلماته من أجل وصف المساكين والصراصير والأجواء الخريفية السيئة، ولا أعلم لماذا اشعر اتجاهك بالشفقة، إنني أشفق عليك لدرجة البكاء، إنك شاب طيب القلب وخلوق، فلماذا أنت كاتب ولست صيدليًا أو طبيباً.

وهنا بدأت بتذكر جميع الهواة من زملائي ووجدت أنهم خائبين، وهنا أصبت بحالة من الهيستيريا وقمت أمام الجميع وبدأت بالبكاء والحديث عن حياة الخائبين الروسيين، وهنا حاولوا أن يغلوا على فمي إلا أنني استمريت بالصراخ والحديث، وفي النهاية صاح صاحب المنزل وقال: من ذا الذي قدم المشروبات الكحولية للعازف حتى أفقده عقله، وطلب من الخدم أن يمسكوا بي ويرموني إلى الخارج وطردوني، ما رأيك بتلك الفضيحة؟!.


شارك المقالة: