تُعتبر المؤلفة والأديبة فرجينيا وولف وهي من مواليد دولة بريطانيا من أهم وأبرز الكاتبات اللواتي ظهرن في القرن الثامن عشر، وقد كانت أول ما تلقت الدعم في الاستمرار في الكتابة والتأليف كان من قِبل والدها، ومن أهم القصص التي اشتهرت بها هي قصة المرأة والمرآة انعكاس.
قصة المرأة والمرآة انعكاس
في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول الحياة في أحد البيوت العتيقة، فمن عمق موقع الأريكة التي كانت توجد في غرفة المعيشة، كان بإمكان من يجلس عليها مشاهدة ليس فقط انعكاس المائدة المرمرية التي كانت مواجهة للمرآة الإيطالية، بل كذلك يمكنه مشاهدة جزء من امتداد الحديقة، ويمكنه أيضاً مشاهدة أحد الممرات العشبية والذي يؤدي إلى صفين طويلين من الأزهار لتقطعه المرآة الذهبية بزاويتها.
فذلك الإحساس كان يرافق أي شخص يجلس وحده في غرفة المعيشة، فالبيت كان خاوي لا تعيش فيه سوى سيدة بمفردها، وتحيط به الحشائش والأشجار والحيوانات من حوله تتحرك بحرية تامة مثل الغرير وثعلب الماء والرفراف غير مرئيين، وفي ظهيرة أحد الأيام امتلأت إحدى الغرف في ذلك البيت بمجموعة من المخلوقات الحذرة والأضواء والظلال، كما تساقطت أوراق الأزهار، وبدأت تمشي هذه الكائنات على السجاد وبين رفوف الكتب الغائرة والخزائن المدهونة باللون الأحمر والذهبي.
حيث كانت تلك الحيوانات جميعها ترقص على الأرض، إذ يتمايلون بكل رشاقة يرفعون بأرجلهم إلى أعلى منتصبة وكانت ذيولهم ينقرون بها مثل الكركي أو أسراب من الفلامنجو الأنيقة التي شحبت ألوانها الوردية والتي كانت ذيولها مطرزة بخيوط فضية كلون الريش الموجود في ذيل الطاؤوس، وكان في ذلك الوقت تدور لحظات توهج وإظلام غامضة، وذلك مثل قيام الحبار بصبغ الأثير بلون بلونه البنفسجي، كما كان للغرفة عواطفها وغضبها وحقدها وأحزانها التي ملأتها وكدرتها حالها كحال إنسان تماماً، فلم يبق شيء على حاله أكثر من ثوانٍ قليلة.
بينما في الخارج في غرفة المعيشة فقد كانت المرآة تعكس المائدة وزهور عباد الشمس وممر الحديقة بكل دقة وثبات ووضوح، إذ بدا منظر جميل وغريب وسكون بان في تلك الغرفة، ومن كان يجلس على الأريكة في تلك الغرفة لم يتمالك أن يمنع نظره إلى الناحية الأخرى، وفي تلك اللحظة فتحت الشبابيك والأبواب حتى تدخل حرارة الشمس، وكان في تلك الأثناء يتردد صوت تنهد يتبعه سكون كتنفس إنسان تماماً، إلى أن كفت الأمور التي كانت تظهر في المرآة عن التنفس، ورقدت ساكنة في نشوة الخلود، وهنا نزلت سيدة البيت والتي تدعى إيزابيلا تايسون، حيث كان الممر العشبي ينعكس على ثوبها الصيفي الخفيف، وقد كانت تحمل سلة في يدها، وهنا اختفت فقد قطعت حافة المرآة المذهبة إمكانية مشاهدتها.
وفي ذلك الوقت كان يعتقد أنها توجهت نحو الحديقة السفلية من أجل جمع الأزهار، أو لانتقاء شيء لطيف أو أحد تلك الأغصان المزهرة الأنيقة مثل اللبلاب لكنها اختارت شيء غريب، شيء يشبه الورود التي توضع على التابوت، وقد كانت تلك المرأة في الستين من عمرها، حيث يستحيل على امرأة في عمرها أن تكون إكليل من الورود بنفسها، لكنها عزمت على ذلك.
في الحقيقة كانت إيزابيلا امرأة ثرية جداً اشترت منزل ومن حوله حديقة تعيش به بمفردتها، وفي تلك الحديقة قامت بانتقاء زهورها بنفسها من مختلف بقاع العالم، فبعد أن كان لديها الكثير من علاقات الصداقة والعلاقات الغرامية، ولكنها لم تتزوج على الاطلاق، وما كان يدل على ذلك أن في ذلك المنزل الكثير من الجوارير التي كانت تحتوي على خطابات ملفوفة بأعواد الخزامي.
لكن لم يقوى أحد في يوم من الأيام على فتح إحدى تلك الجوارير وقراءة الرسائل والخطابات الموجودة بداخلها، فلو تجرأ أحد على ذلك لوجد ملامح لكثير من الإثارة، إذ كانت خطابات غرامية طويلة وأخرى خطابات غيرة عنيفة وأخرى خطابات عتاب وفراق، إلا أن وصلت إلى خطابات اللامبالاة، وهذا ما جعل غرفة إيزابيلا تصبح أكثر ظلام تحت وطأة التفكير، بالإضافة إلى أنها قامت بتظليل زوايا الغرفة، واطالت أرجل الكراسي والموائد إلى أن أصبحت مثل الحروف الهيروغليفية، كانت الألواح الموجود في المنزل ترتبها وتنظمها السيدة إيزابيلا حسب التجارب التي عاشتها في حياتها الشخصية، فلم تكن مجرد لوحات عادية تعبر عن دلائل إنسانية.
وفي أحد الأيام بينما كانت السيدة إيزابيلا ترقد على المائدة الرخامية لتناول غدائها، وبعد أن انتهت من ترتيبها اقتربت من الألواح وجهزت مكان بينها ورتبت ونظمت جزء منها، حيث وهبت هذا المكان السكون والخلود وكأنها تجهز لمكان لوحة جديدة بينها، حتى أصبحت الألواح وكأنها حفرت بحقيقة أبدية وليست مجرد رسائل عادية، لو تمعن أي شخص فيها وتمكن من قراءتها لعرف كل شيء عن حياة ايزابيلا.
وبعد الانتهاء من ذلك توجهت إيزابيلا إلى المكان الموجود به الجوارير وأخذت بتناول رسالة بعد رسالة وقراءتها والتمعن فيها، إذ كانت تقف عند كل كلمة فيها، كما كانت الصفحات داخل هذه الأظرف تشبه المرمر، إذ تم نقشها بمعاني ثقيلة وحقائق قاسية، وبعد كل الاهتمام الذي اعطته للرسائل تنهدت وحاولت أن تقوم بتمزيق تلك الأظرف إلى قطع صغيرة جداً، ولكنها ربطت عليها وأغلقت عليها درج الخزانة محاولة إخفاءها تماماً، إذ كانت تخشى أن يتم الوصول إلى تلك الرسائل وقراءة ما فيها.
وفي المساء أخذت تفكر بأنها ينبغي عليها شراء شبكة جديدة من أجل الفراولة وأنها يتوجب عليها أن تبعث زهورًا لأرملة جونسون، وأن الوقت حان من أجل أن تزور عائلة هيبليز في بيتهم الجديد، فمن كان يستمع إلى هذا الكلام يتأكد من أنها تريد وداع هؤلاء الأشخاص من حولها وتؤمن السلة لشجرة الفراولة، وفي تلك اللحظة التزمت الصمت وبدأت بالتفكير دون تحديد هدف من ذلك التفكير، فقد كانت كتومه مثل غرفتها، تدخلها الأضواء حيناً وتتراجع عنها أحياناً أخرى.
وهنا امتلأ عقل إيزابيلا بأدراج مغلقة مكتظة بالخطابات مثل الأدراج الموجودة في منزلها تماماً، حيث بدت وكأنها مغارة لا يمتلك أحد مفاتيحها، وفي لحظة من اللحظات توجهت نحو الحديقة بتؤدة وبطء، حيث تتريث عند كل زهرة، كما كانت تضع الزهرة في مكانها وهناك لترفع زهرة وردية أخرى، وتشتم عبير الورود، ولم تتوقف عن السير أبدًا، وفي تلك الأثناء بدأت المرآة تعكسها بأنها أكبر فأكبر في العمر.
ومن هنا بدأ انعكاسها على المرآة يختفي شيئاً فشيئاً، وكأن شخص ما مسحه بواسطة نوع من الأحماض، وفي لحظة ما بدت السيدة إيزابيلا وكأنها شخصية خالية تماماً، حيث تخلصت من أفكارها العميقة، وما إن وصلت إلى جانب المائدة حتى توفت، فقد أرادت بالمكان بين الألواح أن تضح اللوحة الأخيرة وهي لوحة مفارقتها للحياة.