قصة المعمر المئوي

اقرأ في هذا المقال


تُعد القصة من روائع الأدب التي صدرت عن الأديب إميل فرانسوا زولا، وقد تناولت في مضمونها الحديث حول إنسان كبير في العمر إلى أن بلغ قرن كامل، وقد شهد في هذا القرن الكثير من الأحداث التي مرّت بها بلاده، إلا أنه في فصل الشتاء كان يصيبه الاكتئاب ويتمنى أن يلحق بجيله، بينما في فصل الربيع تتجدد داخله الطاقة والحيوية ويتمنى لو أن أيامه تطول.

قصة المعمر المئوي

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول شاب في مقتبل العمر، وقد كان ذلك الشاب في كل مساء يذهب إلى إحدى الحدائق في المدينة والتي تعرف باسم حديقة لوكسمبرغ، وفي كل ليلة كان يصادف معمراً، وما يقصد بالمعمر هو ما يبلغ عمره مئات الأعوام، وفي ذات مساء صادف معمر طويل القامة كان جالس على أحد المقاعد الموجودة في الحديقة، وقد كان ذلك المقعد يقع تحت ظلال أشجار الكستناء، وفي تلك الليلة كانت السماء مليئة بالغيوم الشاحبة في فصل الشتاء، كان المعمر في تلك اللحظات شارداً في أفكاره، ومنحنى بذقنه متكئ بها إلى مقبض عصاه.

وفي ذلك الوقت كان المعمر يتأمل العديد من الفتيات الصغيرات في السن وهن يلعبن إلى جانب أسفل المقعد الذي يجلس عليه، وبين الحين والآخر يرمين للمعمر بضحكاتهن العذبة، مما لا شك في تلك اللحظات أنه كان يفكر في مرحلة الطفولة التي مر بها، كان يجذبني في ذلك المعمر الهدوء الرصين الوديع الذي يتميز به ووجهه الذي تطغو عليه الطيبة، ومما كان واضح على المعمر أنه مصقول بالتجارب، وأكثر الأوقات التي كنت استمتع بها هي حينما استمع إلى كلامه وحديثه عن الحياة، وهو الذي خاض بالعديد من تجاربها بأفراحها وأتراحها.

وفي أحد الأيام من شهر آذار إذ كانت فيه السماء قاتمة اللون وقد برز قصر لوكسمبروغ يرتفع بشكل شاحب وكئيب تحت تلك الغيوم ذات اللون الرمادي، قال لي المعمر بصوت يطغو عليه الحزن والحنين للماضي وقد كان يقلب التراب برأس عصاه: أتعلم يا بني عرفت السماوات الكثير من الأيام الماطرة منذ أن ولدت إلى حد هذا الوقت وقد ذرفت عيناي الكثير من الدموع.

وأردف حديثه قائلاً: ألّمت بي العديد من المصائب، ومن أكثر تلك المصائب ألماً تلك التي كانت تمر بي حينما كنت أفقد كل ابن من أبنائي وأحفادي الذين ماتوا، وها قد مر بي العمر وأصبحت وحيد في هذه الحياة، ومع الوقت سئمت الاستمرار في الوجود بعصر لم يعد عصري، لا تتمنى يا بني في يوم من الأيام أن تتخطى متوسط عمر البشر، فالموت أكبر راحة ضرورية للإنسان، حيث أنه يثلج صدر من تقدم به العمر مثل لقاء العشيقة، وما بقي لي سوى الأحزان، كما أن الأحزان بقيت ملازمة لي طوال الأيام التي عشتها، إذ عاقب خمسة ملوك وإمبراطوريتين وثلاث جمهوريات، كما أنني كنت أكبر شاهد على جميع الأخطاء التي يمكن لأي شعب أن يرتكبها على مدار قرن كامل، إنني أتذكر تاريخنا بكافة تفاصيله، فكم من الدموع سكبت؟ وكم من الدماء أريقت؟

وفي هذا اليوم وتحت هذه السماء من شهر آذار أسائل الماضي كثيراً عن أمور كثيرة، كما أنني أحسد كل الذين ولوا ولاقوا حتفهم، إنني أحسدهم لأنهم أصبحوا تحت التراب، حيث أنهم أصبحوا يجهلون آخر عار لحق بنا وآخر دموع ذرفناها، وإنني في هذه اللحظة أشفق على نفسي كثيراً؛ لأنني ما زلت حتى هذا اليوم على قيد الحياة، وإنني كذلك أشفق على هذا العالم الذي ما زلت أحتل به مكانة وسكنته أكثر مما ينبغي، فالأشخاص الذين يموتون وهم ما زالوا صغار في العمر محظوظون جداً، فقد رأفت بهم السموات.

ومع مرور الأيام جاء شهر أيار وفي أحد الأيام وجدت العجوز المعمر ما زال جالس على ذات المقعد، وفي تلك الأثناء كان قصر لوكسمبروغ يتألق ويسطع تحت شمس السماء الذهبية المشعة، كما كانت النسمات اللطيفة تعصف عابرة فوق العشب حاملة معها أريج أزهار البنفسج اللطيفة، وأول ما التقيت مع العجوز بادرني بابتسامة طيبة وقال: يا ابني إن هذا يوم جميل هو من ضمن الأيام الجميلة الإضافية من سلسلة الأيام الجميلة في العالم، وإنني في هذه اللحظات أتذكر جميع فصول الربيع التي عرفتها في حياتي وكل أفراحي التي عشتها في هذا الفصل.

يا إلهي كم أن الحياة حلوة وجميلة وكم يطيب لي أن أعيش أيام أطول في ظل هذا الهواء الدافئ، لقد مرّ علي مئة ربيع، إلا أنني لم أقوى على استنفاد حبي العميق لأشعة الشمس الساطعة بلونها الذهبي البراق، ولو مرت علي مئة عام أخرى، فسوف أظل أتحسر على أوراق الشجر الأولى وأشعة الشمس الأولى، ففي مثل تلك الأجواء يعود الإنسان إلى مرحلة الشباب اليافع، كما أنه يتجدد شبابه مع كل سنة جديدة، ففي هذا اليوم اعتبر أن عمري ما زال في العشرين.

وإنني في هذا اليوم البديع ممتن للحياة على كل ما قدمته لبي من مسرات وما أنعمت علي بكل لحظة جميلة، وإنني في كل يوم أرى من جميع جوانبي أحفادي لأربعة أجيال يلتفون من حولي في مجلسي، وإنني حينما أشاهدهم يلتفون من حولي أشعر بسعادة عارمة، وأشعر بأنني أب وجد لقبيلة كاملة حتى الوقت الحالي، وعلى الرغم من أنني في كثير من الأوقات أشعر بالوحدة، إلا أنني في وسط وحدتي أبارك الحياة؛ وذلك لأن الحياة هي عبارة عن كم هائل من الذكريات، وأكثر ما أستمد به سعادتي، هو تذكري لأفراحي الماضية.

واستطرد العجوز حديثه بقوله: لقد قدمت لي الحياة فخر بأن أكون أكبر شاهد على أحداث مهيبة مرت بها بلادي، فعلى مدار قرن كامل اكتسبت فيه الكثير من الخبرات والتجارب في هذه الحياة، كما أنني تعلمت ما هو المعنى الحقيقي للحرية واكتسبت الكثير من العلوم، فحينما يحين وقت رحيلي سوف أرحل وعزائي الوحيد في هذا العالم هو قناعتي بأننا نسعى حتى نصل إلى النور بخطى بطيئة، ولكنها على الرغم من ذلك ثابتة، وإنني مع كل يوم أنسى كافة التعب والمشقة التي مررت بها حين أفكر بروح الحقيقة والعدالة التي نستهدي بها وتدفعنا نحو الأمام، وإنني أسأل الربيع أن يهبني سنوات جديدة ومديدة.

وفي النهاية تلك هي الحياة تمتلك صرختين أبديتين، الأولى تتجسد في صوت اليأس والصرخة الثانية تتجسد بصوت الثقة، وإنني قد أوشكت على أيامي الأخيرة ويخيل لي في هذه الأيام القاتمة أنني أرى دولة فرنسا تجلس على هذا المعقد تذرف الدموع على أبناءها الذين رحلوا، وتتوق إلى التراب، إلا أنني في أحيان أخرى أراها اليوم تشهق عالياً بآمالها وأحلامها المنتعشة، وترتسم على شفتيها ابتسامة لماضيها وتضع ثقتها في مستقبلها، وتتمنى حياة طويلة الأمد حياة أبدية تقودها إلى الحرية وإلى النور.


شارك المقالة: