تُعتبر هذه القصة من القصص القصيرة التي صدرت عن الفيلسوف أنطون تشيخوف، وقد تناولت في مضمونها الحديث عن بعض المشاعر المضطربة التي عاشتها إحدى الفتيات بعد مشاهدتها إلى إحدى المسرحيات التي دار محور نصها حول مشاعر الحب بين الطرفين.
قصة بعد المسرح
في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة في أحد الأيام حينما كانت قد رجعت فتاة تدعى ناديا مع والدتها من المسرح، حيث أنه في ذلك اليوم كانت ناديا قد شاهدت للمرة الأولى مسرحية بهذا الكم الهائل من مشاعر الحب، وأول ما وصلت ناديا المنزل سرعان ما توجهت نحو غرفتها، إذ في البداية نزعت الفستان الذي كانت ترتديه وأبدلته بثياب أخرى وحلت ضفيرتها، وقد كانت في كل تلك الأمور تبدو على عجلة من أمرها.
ثم بعد ذلك جلست إلى الطاولة الموجودة في غرفتها وبدأت بكتابة رسالة، وقد كانت هذه الرسالة تماماً كالرسالة التي قامت بكتابتها فتاة تدعى تاتيانا وهي بطلة المسرحية، وقد كانت تلك الرسالة تتضمن كلمات بسيطة إذ خطت بها: إنني أكن لك مشاعر مفعمة من الحب، ولكنني أعلم أنك لا تحبني، كتبت تلك الكلمات ومن ثم ضحكت.
كان عمر ناديا في ذلك الوقت ستة عشر عاماً، وفي تلك المرحلة من عمرها لم يكن لها وأن دخلت بعلاقة حب مع أي شخص، على الرغم من أن هناك من سبق واعترف لها بمشاعر الحب لها مثل أحد الضباط الذي يدعى جورني، وطالب آخر كان زميل لها في المدرسة ويدعى جروزديف، ولكنها بعد حضورها للعرض المسرحي والأوبرا، بدأت بالتشكيك في تلك المشاعر التي اعترفوا لها بها، كما كانت تشكك في أنها فتاة غير محبوبة وتعيسة في حياتها؛ وذلك لقلة من عبروا لها عن مشاعرهم.
إذ رأت أن هناك ثمة شيء ما يجعل الشخص يحب الطرف الآخر بكل قوته ولا يكترث بأي أمر آخر أو مشاعر الطرف الآخر، وهذا الأمر يكون شيء جميل ومؤثر وشاعري، فإما أن يحب بتلك الطريقة، أو أنه من الأفضل أن لا يحب مطلقاً، وهنا أشارت إلى أن بطلة المسرحية كانت تبدو خلابة لأنها تحب بقوة، ولو أنه أحبها الطرف الآخر وبادلها ذات المشاعر وكانا سعيدين، كان سوف يبدو الأمر ممل.
وفي تلك الأثناء فكرت في كتابة رسالة تخاطب بها الضابط وقالت: كفاك أن تبقى على الدوام تثبت لي صحة مشاعرك، فأنا لا أقوى على تصديقك، إنك شخص تتميز بالذكاء وعلى مستوى عالي من الثقافة كما أنك تمتلك موهبة كبيرة، ومن المؤكد أن يكون هناك بانتظارك مستقبل مزدهر وباهر، أما عني فلا أمتلك أي مميزات، إذ أني ليس لدي أي طموح وأحلام وهذا ما يجعلني فتاة لا قيمة لها في المجتمع، وأنت تدرك جيداً أنني لن أكون سوى عقبة في حياتك، أنني أعلم أنك تحبني وظننت أنك عثرت على فتاة أحلامك التي تبحث عنها، لكنني مجرد غلطة، ولكنني أخشى في الحقيقة أن أعبر لك عن مشاعري تلك وجهاً لوجه؛ وذلك لأنك شخص طيب القلب ولا أريد أن أجرح مشاعرك.
وبعد أن اعترفت بذلك على الورق شعرت ناديا بالشفقة على نفسها، فأخذ تنهمر الدموع من عينيها وواصلت كتابة الرسالة، حيث قالت: من الصعب عليّ أن أفارق والدتي وشقيقي، ولو أنني أقوى على ذلك كنت ارتديت مسوح الراهبات ومضيت أينما يمتد بي البشر، وهنا تصبح أنت إنسان حراً وتحب فتاة غيري، آه كم أتمنى الموت في تلك اللحظة، وهنا من كثرة الدموع في عينيها أصبح من الصعب عليها وضوح الكلمات، وبدأت تتراقص ألوان طيف قصيرة فوق الطاولة وعلى أرضية الغرفة وعلى السقف كذلك، وقد تعذرت عليها الاستمرار في الكتابة، فرجعت على ظهر المقعد وأخذت تفكر في جورني، وهنا تلفظت بكلمات: يا إلهي أي سحر في الرجال أنت وأية جاذبية تمتلكها.
وفي تلك اللحظة بدأت ناديا في تذكر تلك التعابير الرائعة واللطيفة التي كانت ترتسم على وجه الضابط حينما كان يتعرض لمحاورة حول الموسيقى، وأشارت أي جهود يبذلها أثناء تلك المحاورة، حيث يستمر في محاورة الجميع إلى أن يرن صوته بكل حماس، والذي يبدو من خلاله ذلك الترفع البارد واللامبالاة، وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على حسن التربية والتحلي بالأخلاق الفاضلة، ومن خلال ذلك الصوت يدرك الجميع مدى عشقه للموسيقى، وقد كانت الحوارات لا تنتهي حول الموسيقى والأحكام الجريئة وهذا ما يجعله في توتر وخجل دائم.
وخلال تلك الذكريات تطرقت ناديا إلى تلك اللحظة التي أخذ بها الضابط بالعزف على آلة البيانو، وقد أوضحت أنه كان مثل أي عازف أصيل وماهر، فلم يكن يبدو عليه أنه ضابط، وكل ما يشتهر به بين الجميع أنه موسيقي مشهور، وهنا جفت دموع ناديا، وقد تذكرت تلك اللحظات التي كان قد صارحها الضابط بحبه، إذ كانت أول اعتراف لها بحبه هو في حفل سينفوني، والمرة الثانية كانت في الطابق الأرضي بجانب المشاجب، حيث أن في تلك اللحظة كانت قد هبت طيارات الهواء من جميع النواحي.
ومن هنا انتقلت ناديا للحديث عن ثاني شخصية اعترفت لها بمشاعر الحب وهو الطالب جروزديف، وبدأت في كتابة رسالة حول مواصفاته فقالت: لقد كان إنسان يتميز بالذكاء الشديد، وأن أي فتاة تراه من المؤكد أنه سوف تعجب به على الفور، كما أشارت أنه كان في زيارة لهم في يوم الأمس ومكث في زيارتهم حتى تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وقد انبهر كافة أفراد عائلتها به.
ثم بعد ذلك عقدت يديها فوق الطاولة وأسندت إليهما رأسها، فسقط شعرها وغطا الرسالة، وبدأت في ذكريات حول الطالب تتوارد إلى ذاكرتها، وهنا أشارت أن الطالب كذلك يكن لها الكثير من مشاعر الحب، ودون أي سابق إنذار دلفت البهجة في صدرها، ثم صارت المشاعر بداخلها تتدفق بشكل أعمق وأكبر كالموج تماماً، وفي تلك اللحظة نسيت كل من جورني وجروزديف وبدأت أفكارها بالاشتباك، بينما أخذت البهجة تكبر وتكبر بداخلها، إلا أن وصلت إلى صدرها وذراعيها وساقيها، حتى تخيل لها أنها نسمة رقيقة باردة هفت على رأسها فحركت شعرها، وهنا اهتزت كتفاها من الضحك الخافت إلى أن اهتزت الطاولة وزجاجة المصباح.
وقد هاجت بالضحك بشكل أكبر حينما تذكرت كيف لاعب الطالب بعد أن تناول الشاي بالأمس الكلب البودل، وهنا قالت: من الأفضل أن أحب جروزديف، وهنا اتخذت قرارها ومزقت الرسالة، وأخذت تفكر إلى أن ساحت الأفكار في رأسها، وأصبحت تفكر في كل شيء من حولها، كتفكيرها في والدتها وفي الشارع وفي القلم كذلك، وقد كان تفكيرها في كل تلك الأشياء بشكل مبهج إلى درجة أنها بدا لها أن كل شيء حسن.
وقد استوطنت البهجة بداخلها إلى أن أوحت لها أنه عما قريب سوف تكون كافة الأمور بشكل أفضل وأروع، وأنه قريباً سوف يحل الربيع وتبدا بالسفر مع والدتها إلى مدينة جربيكي، أنه سوف يعود جورني من فترة إجازته ويتجول معها في الحديقة، ويحيطها بكامل الاهتمام، كما أنه سوف يأتي جروزديف كذلك ويلعب معها لعبة الكروكيت، ويقص على مسامعها أشياء مضحكة ومدهشة.
وفي النهاية انتابتها رغبة عارمة في الخروج للحديقة في ذلك الظلام الدامس حيث كانت السماء الصافية والنجوم تتلألأ، ثم بعد ذلك انتابتها نوبة أخرى من الضحك، وتخيلت أن غرفتها تمتلئ برائحة الشيح، ومن هنا سارت نحو فراشها وجلست دون أن تدري ماذا تفعل ببهجتها التي أضنتها، فتمتمت قائلة: يا إلهي يا إلهي.