قصة تصالح

اقرأ في هذا المقال


هذه القصة صدرت عن الكاتب والأديب الأمريكي أليكسيس مارتي فيرانيس، حيث أبدع في تصوير أبرز القضايا المجتمعية من خلال قصة قصيرة، كما كان للقصة تأثير كبير على كُتاب القصة القصيرة؛ وذلك نظراً إلى كيفية سرد الوقائع والأحداث بطريقة بسيطة ومميزة، وقد تمت ترجمتها إلى الغالبية العظمى من اللغات العالمية، كما تمت تجسيدها في العديد من الأفلام السينمائية العالمية.

قصة تصالح

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول الشخصية الرئيسية، وقد كان رجل فرّ في يوم من الأيام إلى مكان غير معروف اسمه، حيث أن في تلك الفترة كانت هناك حرب قد قامت بين الحكومات والشعب الكولومبي، وحينما هرب ذلك الرجل جراء مطالبته للمحاكمة، كان قد ترك خلفه زوجته والتي كانت في ذلك الوقت حامل وعلى وشك الولادة، في لحظة من اللحظات كانت الحرب على وشك الانتهاء وكان مقابلته مع زوجته على وشك أن تتم.

إلا أنه عادت واشتعلت الحرب من جديد، وقد كان الأمر غير مُجدي في تلك اللحظات الحامية جراء اشتعال الحرب أن يتذكر أي لحظات جيدة قد عاشها في السابق أو قضاها مع عائلته، وفي أحد الأيام بينما كان يسير لوحده في مكان ما قام بوضع أصابع يديه على فمه وهنا شعر أن هذا الفم لن يقوى على الكلام مرة أخرى من جديد؛ وقد كان السبب خلف ذلك الشعور هو أنه لمن سوف يتحدث، فالسيدة التي كان يستطيع الكلام معها وأن يثق بها قد أصبحت بعيدة الآن، وكل ما تمكن من القيام به هو الحديث بكلمات جارحة والحسرة والندم على ما مضى.

وفي يوم ما قرر أن يجلب زوجته وأن تعيش معه في ذلك المكان المنعزل، وبالفعل لم تمر أيام قليلة وقد جاء بها للعيش معه، وكان على مدار الوقت يقوم بمراقبتها من بين جميع متعلقاته؛ وذلك خوفاً عليها كونها كانت حامل، ولكن تلك الزوجة كانت تتسم بالهدوء، وفي أغلب أوقاتها كانت تقف إلى جانب الحائط دون أن تنطق بأي كلمة، وعلى الرغم من أن الجو كان شديد البرودة في ذلك المكان، إلا أنها كانت على الدوام ترتدي ملابس خفيفة، ويوماً عن يوم بدأ يقترب موعد ولادتها، على الرغم من أنه في الكثير من المرات كان قد أنجب أطفالاً منها، إلا أنه في هذه المرة كان الوضع مختلف؛ وذلك بسبب عسر الولادة في مثل تلك الأماكن التي يقيم بها، كان الرجل باستمرار يصلي من أجلها؛ وذلك خشية أن ينطفئ بريقها.

وفي ذلك الوقت كان بشكل مستمر يتابع الأخبار في محطات الراديو الكولومبية، وطوال الوقت كان يتمنى لو أن الأطباء والسياسيين يوافقون على وضع أمكان مخصصة لعلاج ومساعدة مثل حالة زوجته، ولكن كل ما بوسعه هو أن يعلق على الأمر وهو مليء بالعاطفة الجياشة والخوف على زوجته، كما كان يضطر إلى اصطحابها إلى التلال والمشي لمسافات طويلة من أجل الوصول إلى الحمامات، وفي كل مرة كان يخشى عليها أكثر فأكثر؛ وذلك بسبب الضجيج الذي كان يغزو التلال في منتصف الليل، وفي كثير من الأحيان كان يحملها على كتفيه ويفر بها بسبب الوحوش.

وفي تلك الأثناء كان كل ما يحلم به الزوج هو العودة إلى منزله في المدينة، حيث يعلم أنه ينتظره، وفي أحد الأيام قرر أن يعيد زوجته إلى المنزل وهو يملك كل الثقة بأنها لن تخونه على الاطلاق في أن تخبر عن مكانه، وبالفعل بعد يومين أرجع زوجته إلى المنزل من أجل أن تتم ولادتها في إحدى المستشفيات، ولم تمكث زوجته طويلاً حتى وضعت الطفل، ولكن كان زوجها قد طال ابتعاده عن المنزل ولم يرى قط طفله الجديد، وبقيت كافة ممتلكاته دون عناية أو رعاية أو اهتمام، ومرت الأيام إلى أن أصبح ذلك الرجل في صورة عجوز مكسيكي.

وقد مضى على ذلك العجوز زمن في ذلك المكان المنعزل، وقد أولت به الوحدة التي عاشها إلى عدم الانسجام مع الأمور المادية في الطبيعة، وكان دائماً يردد سؤال في نفسه: أهذا عقاب من الله؟، وهنا كثير ما كان يردد اللعنات على التحالف الذي انظم إليه في يوم من الأيام وألزم نفسه به، ولكنه كان من الرجال الذين كانوا يلتزمون بكلمة الشرف والعهد الذي يقطعوا على أنفسهم، على الرغم من أنه كان طوال الوقت يشعر بالندم على ما قاد إليه نفسه.

وبقي على هذا الحال إلى أن جاء اليوم الذي أذيع به في الراديو بأن الأعمال العدائية بين القوات المسلحة الثورية التابعة إلى الجيش الكولومبي الشعبي وبين الحكومة الدستورية قد انتهت تماماً، وقد كان ذلك بعد أن مضى ما يقارب على الخمسين عامًا من الكفاح ومقاومة ثلاثة عشر حكومة متتالية، والتي تم في ذلك الوقت استخدام أحدث التقنيات العسكرية الأمريكية، إلى أن وصل الأمر في النهاية إلى توقيع معاهدة سلام يقودها مسار الحوار.

وعند عودة إلى المنزل وعلى الرغم من أن الرؤية كانت غير واضحة لديه جراء تلك الدموع التي فاضت من عينيه، إلا أنه سرعان ما تعرف على زوجته بشكل جيد، حيث كانت هناك سنوات عديدة جمعت بينهما في حياة واحدة مشتركة، سنوات كان يتتبع فيها كافة تصرفاتها وسلوكياتها ويلاحظ كامل تفاصيلها وكان يحملها على ظهره ويعتني بها بكل محبة وشغف، واستمر في البكاء منذ ذلك المكان المنعزل إلى أن وضع الحقيبة من ظهره في منزله.

وأول ما عانق كانت زوجته وبينما كانت بين ذراعيه صاحت قائلة بصوت ممزوج بالدموع: لقد انتهى الأمر لا مزيد من الحروب والابتعاد، وهنا رآها وكأنها بدت بشكل أصغر مما تركها عليه، وحينما دخل بيته الذي كان قد استنشق فيه كافة الروائح التي ظن أنه قد نسيها، وجلس على كرسيه المفضل مرة أخرى من جديد، وقد احتضن وقتها بين بيديه الكأس المعدني الذي يحتوي على مشروب القهوة الساخن الدخاني الجميل، كان يرشفها وهو يشعر بأن السخونة بدأت تسري في عروقه بينما كان يراقب ملامح وجه زوجته.

وفي النهاية أغلق عينيه وأخذ نفساً طويلًا وقد اعتراه الشعور بالراحة والطمأنينة والأمان والسلام، ثم أخرج من إحدى جيوب سترته صورة فوتوغرافية والتي كانت تدل على مسيرته التي قضاها في ذلك المكان المنعزل، حيث كان وجهه يبدو وكأنه ملتويًا غائرًا وعيون بدون أي تعابير، وقد أشارت تلك الصورة إلى تلك الطريقة التي كانت تسيطر بها يديه وبكل قوته على عنق مدفع الرشاش الذي كانت مهمته العمل عليه.


شارك المقالة: