قصة في المطعم الشعبي شوهدا

اقرأ في هذا المقال


تُعتبر هذه القصة من روائع الأدب التي صدرت عن الأديب ايتالو كالفينو، وقد تناول من خلال محتوى القصة حول الأشخاص من مناطق وطبقات مختلفة وعند تلاقيهم في الأماكن العامة لا يمكنهم أن ينسجموا مع بعضهم البعض، كما أنه في الغالبية العظمى من هؤلاء الأشخاص يكون أحدهم يريد أن يفتك بالآخر.

قصة في المطعم الشعبي شوهدا

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول سيدة كانت قد وصلت في يوم من الأيام إلى أحد المطاعم الشعبية التي كان يرتادها الشخصية الرئيسية في القصة والتي تم سرد الأحداث من منظوره، حيث قال: كانت تلك السيدة هي امرأة أرملة ضخمة من ناحية الجسد وترتدي ملابس ذات لون أسود، وقد جاءت من المناطق الريفية إلى المدينة بغرض التجارة، حيث كنت أتناول طعامي، وفي هذا المطعم كان يأتي الكثير من هذا النوع من تجار السوق السوداء الكبار منهم والصغار؛ وذلك من أجل حال الاقتصاد المزدهر به، إلا أنه كانت تطغو على ملامحهم حالة من البؤس واليأس؛ وذلك لأنهم يضطرون للإسراف بين الحين والآخر.

ولكن حينما يتذكرون أن جيوبهم مليئة بأوراق من فئة الألف ليرا يميلون إلى طلب المعكرونة الشريطية وشرائح من اللحم البقري، بينما نحن الآخرون جميعاً في ذلك المطعم وعلى وجه الخصوص العازبين نأكل بالبطاقة ويصل بنا الأمر إلى أن نبتلع ملاعق الحساء، وما كان يظهر على تلك السيدة أنها كانت تاجرة محترفة وغنية ومعروفة في السوق السوداء، إذ كانت وهي جالسة في المطعم تشغل جانباً كبيراً من الطاولة وبين الحين والآخر تخرج من حقيبة يدها خبزاً أبيض ومجموعة من الفواكه وأنواع من الأجبان المغلفة بالورق.

وفي تلك الأثناء دخل رجل آخر من التجار وبدأ بالبحث عن مقعد شاغر، وإذ به يجده بالقرب من مقعد تلك السيدة، فسألها: هل تسمحين؟ فنظرت إليه السيدة وهي تمضغ وقد تذمرت بعض الشيء إلا أن الرجل حيّاها رافعاً قبعته عن رأسه بشكل خفيف وجلس، وقد كان ذلك الرجل عجوز كبير في السن إلا أنه شديد النظافة ومنهكاً بمعطفه على الرغم من أن الفصل لم يكن شتاء في ذلك الوقت، كما كان هناك سلك يعود لجهاز السمع الطبي يتدلى من أذنه، وعند رؤيته يشعر المرء على الفور بعدم الارتياح والاطمئنان له؛ وذلك جراء تهذيبه الشديد الذي يأتي مع كل حركة يقوم بها.

وقد كان من الواضح أنه من طبقة النبلاء، إلا أن الأيام قد حطت به إلا أنه سقط من عالم مليء بالمجاملات إلى عالم آخر مليء بالتدافع والقبضات في الجوانب، ولم يكن يفهم شيئاً من هذا العالم، ومع ذلك كان متابع انحناءه ومجاملته بين جمهور المطعم شعبي، ويبدو وكأنه في حفل استقبال في البلاط الملكي.

وفي ذلك الوقت حينها أصبح كل واحد منهم يجلس باتجاه الآخر السيدة الغنية الجديدة والسيد الغني السابق، كانا يبدوان وكأنهم جنسين غريبين الواحد منهما عن الآخر، كان شكل السيدة عريضة وقصيرة ذات يدين كبيرتين وضخمتين، بينما كان الرجل العجوز يجلس على طرف الكرسي ويديه ضمن القفازات مشوهتين بفعل التهاب المفاصل.

كان الرجل العجوز في لحظة من اللحظات قد انقطعت شهيته عن الطعام، إذ كان يرتشف الحساء عديم الطعم تحت أسنانه القليلة، أما المرأة الضخمة فكانت تبتلع المعكرونة، كما أن العجوز كان شبه محاصر بمؤن الأرملة المتناثرة على الطاولة هنا وهناك، ولكنه بحركة خاطئة من يده المقفزة اصطدم بقطعة من الخبز فسقطت على الأرض، وفي تلك اللحظة ارتبك العجوز وقال: اعتذر يا سيدتي، إلا أن السيدة قد ضحكت ساخرة منه.

وهنا قال الراوي كنت أعتقد أن العجوز سوف يقوم بالصراخ بالأرملة ويقول لها: كفى ويقوم بتمزيق غطاء الطاولة، إلا أنه على العكس من ذلك تماماً فقد انحنى وهو مرتبك تحت الطاولة ليبحث عن قطعة الخبز، بقيت الأرملة تنتظره قليلاً ثم وبعد إذن ودون أن تتحرك تقريباً أنزلت إحدى يديها الضخمتان نحو الأرض وتناولت قطعة الخبز ونظفتها واقتربت بها من فمها وابتلعتها وقد كان العجوز ما زال يبحث عن قطعة الخبز، وأخيراً نهض وهو يشعر بالألم بسبب الجهد والارتباك الذي شعر به، كما انحرف سلك جهازه السمعي.

وهنا قال الراوي فكرت لبرهة من الوقت أنه سوف يقوم الآن ويمسك السكين ويهم بقتلها، ولكنه على العكس من ذلك كان يبدو أنه لم يجد الطريقة التي يعزى بها نفسه لعدم عثوره على قطعة الخبز، وقد حاول أن يغير الموضوع، ولكن في تلك اللحظة لم تكتفي تلك المرأة من إهانة ذلك الرجل والإساءة إليه بنظرتها الحادة الصامتة نحوه، وإنما من شدة حدتها كانت ترغب كذلك في أن تقوم من على طعامها وتسحقه، ولكنها اختصرت الأمر بسبب الجموع من حولها وقالت: لقد استعدت منها ما يسد حاجتي، وفي مدينة كاستل براندونه لدي من ذلك الجبن كتل كبيرة بهذا الحجم، وأشارت بيديها بشكل كبير.

ولكن لم تكون تلك الحجم الذي وصفته بيديها هي ما أثارت انتباه ذلك العجوز، وإنما ذكر كاستل براندونه، وهنا قال وهو يشعر بالدهشة: كاستل براندونه، وحين قالها كانت تبدو في عينيه لمعه غريبة بعض الشيء، واستطرد حديثه بقوله: لقد كنت أعمل في تلك المدينة كملازم في قوات الجيش في سنة 1995م، وفي حينها مكثت هناك لفترة من أجل القيام بمهمة الرمي والتدريب عليه، وبما أنك يا سيدتي تقيمي هناك من المؤكد أنك سمعت بهذا الأمر، وحينما سمعت السيدة بهذا الحديث وبعد أن كانت تضحك بصوت عالي وتنظر من حولها حتى تلفت انتباه الجميع أنه كم أن ذلك الرجل مثير للسخرية صمتت وهدأت ولم تعد تنطق بأي كلمة.

وفي تلك الأثناء تابع العجوز حديثه قائلاً: من المؤكد أنك تتذكرينه، ففي ذلك العام حضر الملك إلى المدينة من أجل أن يشاهد الرمايات وقد تم إقامة حفل استقبال كبير وضخم له في إحدى القلاع هناك وتعرف باسم قلعة آل داسبرتز، كما حصل حينها معي حدث مهم للغاية سوف أقصه عليك.

ولكن في تلك اللحظات حاولت المرأة أن تهرب من الحديث معه، فنظرت إلى ساعة يدها وهمت بطلب صحن من الكبدة ثم حاولت أن تلهي نفسها في الاستمرار بالطعام ولا تلقي نحوه أي نظره أو تعيره انتباهها، وفي تلك الأثناء شعر العجوز أن يتحدث مع نفسه فقط، ولكن على الرغم من إدراكه لذلك، إلا أن ذلك الأمر لم يكفه عن الحديث، إذ عدم إكماله لما بدأ بالحديث به، سوف يضع نفسه موضع خجل.

وأكمل حديثه بقوله: في ذلك اليوم الذي جاء به الملك إلى القلعة أول ما دخل جلالته إلى قاعة الاستقبال والتي كانت مشعة بالإنارة القوية، وفي تلك اللحظة دمعت عيناه وتابع حديثه: وأثناء مسير الملك كانت على إحدى الجوانب مجموعة من السيدات اللواتي يرتدين ملابس مخصصة للحفل، وقد كانن تلك السيدات يؤدين الانحناءة له، وعلى الجانب الآخر كان هناك صف من الضباط والذين كنت من ضمنهم، وقد كنا في حالة استعداد كامل، حيا الملك الواحد تلو الآخر، ثم بعد اقترب مني.

وسألني جلالته وأنت أيها الضابط؟ هكذا سألني بالحرف الواحد فأجبته وأنا في حالة استعداد وتأهب كاملة: الملازم كلير مونت يا جلالة الملك، فقال الملك باندهاش: كلير مونت! إنني أعرف والدك! وقد كان من الجنود الذين يتحلون بالشجاعة وشدّ على يدي هكذا وقال لي بالحرف الواحد: جندياً شجاعاً.

وفي النهاية بعد أن أكمل العجوز حديثه، كانت السيدة الضخمة قد انتهت كذلك من تناولها للطعام فنهضت من مكانها وأخذت تفتش في حقيبتها الموضوعة على كرسي آخر بجانبها، كانت منحنية أمامه تتحرك وتفتش وهو عاد التكرار في نقاط رئيسية بقصته مثل كل القاعة ثراياتها المضاءة ومراياها، وكانت ملامحه تتغير شيئاً فشيئاً، إلا أنه استمر بالحديث وقال: والملك الذي كان يشد على يدي ويقول لي أحسنت يا كلير مونت وجميع السيدات حولنا بثياب السهرة.


شارك المقالة: