تُعتبر مدينة لندن من المدن الحضرية مثلها مثل العديد من المدن العالمية الأخرى، فهي تتميز بجاذبيتها الهائلة في استقطاب الشباب من أجل تأسيس حياة أفضل، ولكن هل من الممكن من يحلم بذلك يلقى حتفه ينتظره هناك.
قصة مقتل روبرتو كالفي
في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة في دولة إيطاليا في نهاية السبعينات من القرن التاسع عشر، حيث أنه في ذلك الوقت تم نشر من قِبل البنك المركزي تقرير حول مجموعة من الأنشطة التي قام بها ثاني أكبر مصرف خاص وهو ما يعرف باسم مصرف بول، وذلك النشاط تمثل بنقل مليارات من الليرات يقدر بحوالي سبعة وعشرون مليون دولار إلى خارج البلاد بطريقة غير مشروعة قانونياً، وقد تسبب ذلك النشاط إلى إجراء تحقيق جنائي كامل حوله، وقد نتج التحقيقات إدانة رئيس البنك وهو ما يدعى روبرتو كالفي.
وحينما تم إلقاء القبض عليه حكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات مع وقف التنفيذ في حال تم دفع غرامة، وفي ذلك الوقت انتشرت الشائعات حول السيد روبرتو بأنه قام بمحاولة الانتحار أثناء تواجده بالسجن، وما كان مدهش في ذلك الحكم هو أن على الرغم من سجنه إلا أنه تمكن من الاحتفاظ بمنصبه في البنك، وبعد أيام قليلة تم الإفراج عنه بكفالة في انتظار حكم الاستئناف، وأثناء تلك الفترة كانت تعتقد عائلته أنه لم يرتكب أي جريمة وأصروا أنه برئ من كل تلك التهم.
وأول ما خرج السيد روبرتو في انتظار حكم الاستئناف، كان البنك المركزي على وشك الانهيار قام السيد روبرتو بكتابة رسالة إلى البابا يوحنا بولس الثاني، وقد أشار من خلال تلك الرسالة إن الانهيار سوف يكون له تأثير عظيم على الكنيسة، كما أنه سوف يؤدي إلى حدوث كوارث مالية، وقد تضمنت تلك الرسالة عدد كبير من أسماء لمسؤولين في دولة الفاتيكان كانوا على علم بما يحدث.
وفي تلك الفترة كان بنك الفاتيكان هو من أكبر المساهمين في بنك بول، وفي الفترة التي سبقت حدوث الانهيار تم اكتشاف ديون تصل إلى مليار ونصف المليار دولار على واحدة من عصابات المافيا، وفي مطلع الثمانينات من القرن التاسع عشر وافق بنك الفاتيكان على دفع مئة وعشرون مليون من الدائنين من أصل مائتان وخمسة وعشرون مليون دولار، وعلى إثر ذلك حصل بنك الفاتيكان حصانة.
وبعد مرور أيام قليلة من إرسال ذلك الخطاب بالبابا، اختفى السيد روبرتو من بيته الذي كان يقيم به في إحدى المدن الإيطالية روما، ومن خلال استخدامه جواز سفر مزور تمكن من السفر إلى مدينة لندن، وبعد مرور ما يقارب أسبوع تم ملاحظة غيابه، وفي تلك الأثناء قام مسؤولو بنك بول بإعفائه من منصبه كرئيس للبنك، وحول ذلك الأمر كتب سكرتيره الخاص والذي يدعى جرا تسيلا مذكرة أشار من خلالها إلى ذلك الضرر الذي ألحقه السيد روبرتو بالبنك وبمجموعة من الموظفين العاملين.
وفي صباح اليوم التالي لوجود روبرتو في لندن غادر شقته والتي كانت تقع في حي يعرف باسم حي تشيلسي من أجل تناول وجبة العشاء، وعندما انتهى من تناول وجبته قرر أن يذهب في نزهة على طول الضفة الشمالية لنهر التايمز، وما حدث بعد ذلك كان محل جدل كبير لأكثر من ثلاثة عقود مرت؛ وذلك لأنه تم العثور على جثته في ساعات الصباح الباكر لليوم التالي معلقة تحت أحد الجسور بالقرب من الحي المالي في لندن، وكان بحوزته ما يقارب على خمسة عشر الف دولار نقدي، وحينما تم العثور على جثته كان هناك بعض الطوب داخل ثيابه.
وقد كان ذلك الخبر قد تسبب بصدمة كبيرة وصدع في كافة أرجاء المدينة، وهنا بوشر بالتحقيقات إلى أنه تم التوصل إلى أنه توفي منتحراً، ولكن لم تتقبل عائلته تلك النتيجة، ولذلك قاموا بتوكيل أحد المستشارين القانونيين والذي يدعى جورج كارمن من أجل الطعن في الحكم، كما قامت عائلته بتعين محقق خاص يدعى جيف كاتس، وبعد أن قام بتحقيقاته توصل إلى أن هناك شخص أخر قام بتكتيف أيادي السيد روبرتو، كما أنه يوجد هناك العديد من الإصابات في منطقة العنق، بالإضافة إلى أن السيد روبرتو لم يكن في حذائه أي أثار من طلاء الجسر، وكل تلك الأمور قد ساهمت في تحول القضة من انتحار لتصبح جريمة قتل بفعل فاعل، وقد تمت الإشارة إلى أن هناك شخص ما قام بتعليق روبرتو في الجسر بعد وقت من وفاته.
ومع بداية القرن العشرين أعادت الشرطة التابعة لمدينة لندن فتح القضية من جديد من أجل التحقيق والتوصل إلى الفاعل، وبعد السير في التحقيقات والتحريات ظهرت حقائق إضافية جديدة، فإذ تبين أن إحدى عصابات المافيا كانت تستخدم ذلك البنك في عمليات لغسيل الأموال، وكان السيد روبرتو جزء لا يتجزأ من جرائم تلك العصابة، وحينما تم نشر تلك الأخبار على الملأ اعتقدوا الناس أن روبرتو قام بنفسه بسحب مبالغ كبيرة من هذا المال، أو أنه سمح بحدوث عمليات غسيل الموال تحت مراقبته.
كما أنه في ذلك الوقت تم التشكيك في أن يكون السيد روبرتو على علم بكافة الأنشطة الفاسدة للسياسيين الإيطاليين الأقوياء وحتى بما يخص الفاتيكان، وهنا تمت الإشارة إلى أن روبرتو من المؤكد أنه كان لديه بعض الأسرار التي كان يتحفظ عليها بأن تبقى مخفية، كما اتضح للجميع أنه كان في موقف نفوذ قوي، وربما كان من أكثر الأشخاص خطورة في إيطاليا بأكملها، وإذا كانت كل تلك الاعتقادات والتكهنات صحيحة، فإن هناك احتمال كبير بأنه يعرف الكثير من الأسرار.
ومن ضمن الاعتقادات كان هناك مجموعة من الناس المسؤولين اعتقدوا أن روبرتو اختلس من عصابة المافيا مبلغ يقدر بخمسين مليون دولار، وأنه بعد أن سقط البنك وخسرت المنظمة كافة أموالها وغادر روبرتو دولة إيطاليا تعقبته عصابة المافيا، وما ساعدهم في الوصول إليه هو أن الهوية المزورة التي استخدمها لم تكن بعيدة عن اسمه الحقيقي، وأنه أول ما وصل إلى لندن ساعده أحد تجار الممنوعات من المحليين والذي بدوره كان على علاقة بعصابة المافيا، كما تم وضع احتمالات بأن روبرتو التقى مع رئيس المافيا في مدينة صقلية قبل أن تحصل فضيحة البنك، وخلال التحقيقات تم التوصل إلى وثيقة تحتوي على أسماء كافة المتورطين في أنشطة غير قانونية.
وفي النهاية تم تحديد العلاقة بين كل من الفاتيكان وعصابة المافيا والبنك بول، إذ تم التوصل إلى أن الفاتيكان هو من يملك أكبر حصة في البنك، وعصابة المافيا هي واحدة من أهم العملاء الرئيسيين للبنك، ولم يدير روبرتو كميات كبيرة وضخمة من أموال عصابة المافيا، بل قام بغسيل الأموال وتمويل مجموعة من المنظمات من خلال البنك، وقد كان يعمل كل من زعيم الفاتيكان وعصابة المافيا معًا من أجل محاولة إسكات روبرتو ومعاقبته؛ وذلك بسبب فقدانهم لأموالهم في انهيار البنك، وأخيراً تم خضوع خمسة أشخاص للمحاكمة بتهمة قتل روبرتو، ولكن لم يكن اتهام رسمي بحقهم، مما جعل المحكمة تبرئهم لعدم كفاية الأدلة، وحتى اليوم لم يتم إثبات التهمة على أي شخص بقتل روبرتو.