ما لا تعرف عن قصيدة “أقمت بأرض مصر فلا ورائي”:
أمَّا عن مناسبة قصيدة “أقمت بأرض مصر فلا ورائي” عندما أقام أبو الطيب المتنبي في مصر عند كافور الإخشيدي بعد أن هجر سيف الدولة في حلب، وكان المتنبي يمدحه بالقصائد العظام وكافور كان يسعى جهدًا في إرضاء أبي الطيب المتنبي، لكنّ كافور لم يكرم المتنبي كما تتمناه، وهو أن يوليه إحدى الإمارات، فكافور كان بذكائه يعلم مدى علو همة المتنبي وكرهه للمماليك وتعصبه للعرب، وكان يخاف أنّ المتنبي إذا تولى الولاية أن يتمرد عليه ويعمل ضده الإنقلابات، ويسبب زلزالًا كبيرًا في دولته؛ لكنّ كافور استولى على الولاة في كل زمان، فكان يحب المتنبي ويمدحه في كل زمان ومكان.
فكان كافور يرضيه بجزيل العطايا ويمنيه ويماطله حتى طال الوقت على أبي الطيب وملّ من الانتظار فتناوشته هموم الغربة والانتظار وأمرضته الرفاهية وكثرة القعود فكانت الحمّى تنتابه بين الفينة والأخرى حتى اشتدت عليه في أحد الأيام جادت قريحته بهذه القصيدة التي بدأها مفتخراً ثم تطرق إلى وصف الحمى بوصف لم يسمع تاريخ العرب الأدبي بمثله، لهذا وقعت قصيدة المتنبي عن الحمى في اثنين وأربعين بيتاً إلّا أنّنا نستطيع القول: إنّ البداية الحقيقية للحدث عن المرض تبدأ من البيت السابع عشر، حين يقول:
أَقَمتُ بِأَرضِ مِصرَ فَلا وَرائي
تَخُبُّ بِـيَ المَطِـيُّ وَلا أَمامي
وَمَلَّنِيَ الفِـراشُ وَكانَ جَنبي
يَمَلُّ لِقـاءَهُ فـي كُـلِّ عــامِ
قَليلٌ عائِـدي سَقِـمٌ فُؤادي
كثيرٌ حاسِدي صَعبٌ مَرامي
عَليلُ الجِسمِ مُمتَنِعُ القِـيامِ
شديد السُكرِ مِـن غَيرِ المُدامِ
وَزائِرَتـي كَـأَنَّ بِهـا حَياءً
فليس تَـزورُ إِلّا في الظَلامِ
بَذَلتُ لَها المَطارِفَ وَالحَشايا
فعافتها وَباتَت في عِظامي
يَضيقُ الجِلدُ عَن نَفسي وَعَنها
فتوسِعُهُ بِـأَنـواعِ السِـقـامِ
إِذا مـا فارَقَتنـي غَسَّلَتني
كأنما عاكِفـانِ عَلـى حَـرامِ
كَأَنَّ الصُبحَ يَطرُدُها فَتَجري
مدامعها بِأَربَـعَـةٍ سِـجـامِ
أُراقِبُ وَقتَها مِـن غَيرِ شَوقٍ
َمُراقَبةِ المَشـوقِ المُستَـهامِ
وَيَصدُقُ وَعدُها وَالصِدقُ شَرٌّ
إذا أَلقاكَ في الكُـرَبِ العِظـامِ
أَبِنتَ الدَهـرِ عِنـدي كُـلُّ بِنـتٍ
فكيف وَصَلتِ أَنتِ مِنَ الزِحامِ
جَرَحتِ مُجَرَّحًا لَـم يَبقَ فيهِ
مكان لِلسُيـوفِ وَلا السِـهامِ
أَلا يا لَيتَ شَعـرَ يَـدي أَتُمسي
تَصرُف في عِنـانٍ أَو زِمـامِ
وَهَل أَرمي هَوايَ بِراقِصاتٍ
مُحلاةِ المَـقـاوِدِ بِالـلُـغـامِ