قصيدة أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

اقرأ في هذا المقال


“أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي، وأسمعت كلماتي من به صمم”، بيت شعري خالدة من أبيات المتنبي، الشاعر العربي الفذ الذي اشتهر بفخره بعبقريته الشعرية وثقته بقدرة شعره على التأثير في النفوس. هذه العبارة القصيرة الحافلة بالمعاني العميقة، تحمل في طياتها فخر الشاعر بإبداعه، وتعبيرًا عن مدى انتشار شعره وتأثيره، حتى وصل إلى من لا يستطيعون الرؤية أو السمع، وهو ما يعتبر إنجازًا شعريًا عظيمًا.

مناسبة قصيدة أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

” انا الذي نظر الاعمى الى ادبي ، وأسمعت كلماتي من به صمم”، ومعناها (الأعمى على فساد حاسة بصره، أبصر أدبي، وكذلك الأصم يسمع شعري؛ يعني إنه شعر اشتهر وسار في البلاد حتى تحقق عند الأصمعي والأصم أدبه فكأن الأعمى رآه، لتحققه عنده، وكأن الأصم سمعه.) تُعتبر هذه الأبيات من أشهر الأبيات الشعرية للمتنبي معبرًا بذلك عن فخره الكبير بإبداعاته الشعريةوكيف أنها تستحق الاهتمام والتأمل حتى من الذين قد يكونون عاجزين عن الرؤية أو السمع. فما مناسبة هذه القصيدة.

أمّا عن مناسبة قصيدة “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي” فيروى بأنّه في يوم دخل أبو فراس الحمداني على الأمير سيف الدولة، وكان ابن عمه، وقد علم بخلاف المتنبي مع سيف الدولة، فجلس أبو فراس وقال للأمير: إنّ هذا المتشدق، يكثر من الإدلال عليك في قصائده، وأنت تقوم بإعطائه ثلاثة آلاف دينار كل سنة عن ثلاث قصائد فقط، ويمكنك أيّها الأمير أن تعطي من هذه الثلاثة آلاف مئتي دينار لعشرين شاعر، فيقولون عنك خيرًا من ما يقوله فيك، فاقتنع سيف الدولة بكلام أبو فراس وعمل به، وقد كان أبو الطيب المتنبي غائب عن المجلس، وعندما وصله خبر ما حصل، ذهب من فوره إلى سيف الدولة، ودخل إلى مجلسه، وقد كان أبو فراس حاضرًا، فأنشد أبو الطيب المتنبي قائلًا ما يلي.

انا الذي نظر الاعمى الى ادبي

واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ
وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ

مالي أُكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي
وَتَدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَولَةِ الأُمَمُ

إِن كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لِغُرَّتِهِ
فَلَيتَ أَنّا بِقَدرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ

قَد زُرتُهُ وَسُيوفُ الهِندِ مُغمَدَتٌ
وَقَد نَظَرتُ إِلَيهِ وَالسُيوفُ دَمُ

فَكانَ أَحسَنَ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ
وَكانَ أَحسَنَ ما في الأَحسَنِ الشِيَمُ

فَوتُ العَدُوِّ الَّذي يَمَّمتَهُ ظَفَرٌ
في طَيِّهِ أَسَفٌ في طَيِّهِ نِعَمُ

قَد نابَ عَنكَ شَديدُ الخَوفِ وَاِصطَنَعَت
لَكَ المَهابَةُ مالا تَصنَعُ البُهَمُ

أَلزَمتَ نَفسَكَ شَيئاً لَيسَ يَلزَمُها
أَن لا يُوارِيَهُم أَرضٌ وَلا عَلَمُ

أَكُلَّما رُمتَ جَيشاً فَاِنثَنى هَرَباً
تَصَرَّفَت بِكَ في آثارِهِ الهِمَمُ

فقام عليه جماعة من الحاضرين يريدون قتله وذلك لأنّه معتز بنفسه، وعندها قال:

يا أَعدَلَ الناسِ إِلّا في مُعامَلَتي
فيكَ الخِصامُ وَأَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ

فقال له أبو فراس: أيها الكاذب، لقد سرقت هذا من دعبل، حينما قال:

وَلَستُ أَرجو اِنتِصافاً مِنكَ ما ذَرَفَت
عَيني دُموعاً وَأَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ

فقال له المتنبي:

أُعيذُها نَظَراتٍ مِنكَ صادِقَةً
أَن تَحسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحمُهُ وَرَمُ

وعندها علم أبو فراس أنّه يقصده بقوله، فقال له: ومن تحسب نفسك حتى تتحدث بأعراض الأمير وأنت في حماه؟، فقال المتنبي:

أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعمى إِلى أَدَبي
وَأَسمَعَت كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ

أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها
وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ

فازداد غيظ أبو فراس الحمداني، وقال له: لقد قمت بسرقة ما قلت من عمرو بن عروة حينما قال:

أوضحتُ من طُرُق الآداب ما اشتكلتْ
دهرًا وأظهرتُ إغرابًا وإبداعا

حتى فتحتُ بإعجاز خُصِصْتُ به
للعُمْي والصَّمّ أبْصارًا وأسْماعا

فقال له المتنبي:

وَجاهِلٍ مَدَّهُ في جَهلِهِ ضَحِكي
حَتّى أَتَتهُ يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ

إِذا نَظَرتَ نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً
فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ مُبتَسِمُ

وَمُهجَةٍ مُهجَتي مِن هَمِّ صاحِبِها
أَدرَكتُها بِجَوادٍ ظَهرُهُ حَرَمُ

رِجلاهُ في الرَكضِ رِجلٌ وَاليَدانِ يَدٌ
وَفِعلُهُ ما تُريدُ الكَفُّ وَالقَدَمُ

وَمُرهَفٍ سِرتُ بَينَ الجَحفَلَينِ بِهِ
حَتّى ضَرَبتُ وَمَوجُ المَوتِ يَلتَطِمُ

فَالخَيلُ وَاللَيلُ وَالبَيداءُ تَعرِفُني
وَالسَيفُ وَالرُمحُ وَالقِرطاسُ وَالقَلَمُ

فقال له أبو فراس الحمداني: وماذا أبقيت لسيف الدولة عندما مدحت نفسك بكل هذا، تمدحه بما تسرقه من غيرك، وتأخذ على ذلك الأموال والعطايا، ألم تسرق قولك من الهيثم بن الأسود الكوفي، حينما قال:

أَعـَـاذلتِي كــــم مَهْــمَهٍ قــــــدْ قطـــعْتُهُ
أليفَ وُحــــوشٍ ســــاكناً غيــــرَ هائِــبِ

أنا ابنُ الفَلا والطَّعنِ والضَّربِ والسُّرَى
وجُــــرْدِ المَذاكِي والقَنَـــا والقَــــواضَبِ

حلِيْــــمٌ وَقُـــورٌ في البــــوادِي وهيْبَتِي
لها في قُلــــوبِ النَّـــاسِ بطْشُ الكتـائبِ

فقال له المتنبي:

وَما اِنتِفاعُ أَخي الدُنيا بِناظِرِهِ
إِذا اِستَوَت عِندَهُ الأَنوارُ وَالظُلَمُ

فقال له أبو فراس الحمداني: وقد سرقت هذا من معقل العجلي، حينما قال:

إذا لم أُميَّز بين نورٍ وظُلْمة
بعينيَّ فالعيَنان زُورٌ وباطِلُ

ﻓﻘﺎﻝ له ﺍﻟﻤﺘﻨﺒﻲ:

يا مَن يَعِزُّ عَلَينا أَن نُفارِقَهُم
وِجدانُنا كُلَّ شَيءٍ بَعدَكُم عَدَمُ

ومن بعد هذا لم يعد أبو فراس الحمداني يعرف بماذا سيرد على أبي الطيب المتنبي، فضربه بداوة كانت بيده، فقال المتنبي:

إِن كانَ سَرَّكُمُ ما قالَ حاسِدُنا
فَما لِجُرحٍ إِذا أَرضاكُمُ أَلَمُ

فقال له أبو فراس الحمداني: لقد سرقت هذا من بشار برد، حينما قال:

إذا رضيتُم بأنْ نُجفَى وسَرَّكُمُ َ
قولُ الوشاةِ فلا َ شكْوَى ولا ضجرُ

فلم يهتم سيف الدولة الحمداني بما قاله أبو فراس، ورضي عن المتنبي، وقربه منه وقام بتقبيل رأسه، وأعطاه ألف دينار، ومن ثم أعطاه ألفًا أخرى.


شارك المقالة: