قصة قصيدة “حجاج أنت الذي ما فوقه أحد”:
أمّا عن مناسبة قصيدة “حجاج أنت الذي ما فوقه أحد” فيروى بأنّ الحجاج في يوم كان في مجلسه مع بعض جلسائه، وكان منهم عنبسة بن سعيد بن العاص، وبينما هم كذلك، دخل الحاجب، وقال للحجاج: امرأة على الباب، فقال له الحجاج: أدخلها، فخرج الحاجب وأدخلها، وكانت امرأة كبيرة في العمر، جميلة المظهر، معها جاريتان لها، فقال لها الحجاج: من أنت؟، فقالت له: ليلى الإخليلية، فقال لها الحجاج: وما الذي أحضرك يا ليلى؟، فقالت له: اختلاف النجوم، وقلة الغيوم، وشدة الجهد، وأنت لنا بعد الله الرفد.
ومن ثم قال الحجاج لليلى الإخليلية: فلتصفي لنا الفجاج، فقالت له: مغبرة، أرضها مقشعرة، بيوتها معتلة، أهلها يرجون، وقد أصابتنا سنين جحاف، لم تدع لنا مرعى ولا بيت، ولم تترك لنا غنمًا ولا بعيرًا، أذهبت مالنا، وفرقت رجالنا، وأهلكت أبناءنا.
ومن ثم قالت ليلى الإخليلية للحجاج: لقد قلت فيك يا مولانا قولًا، إن أذنت لي أنشدته، فقال لها: هاتي، فأنشدت قائلة:
أحَجّاجُ لا يُفْلَلْ سِلاحُكَ إنّمَا
المَنَايَابِكَفّ اللهِ حَيْثُ تَرَاهَا
أحَجّاجُ لا تُعْطِ العُصَاةَ مُنَاهُمُ
ولا اللهُ يُعْطي للعُصَاةِ مُنَاهَا
إذَا هَبَطَ الحَجّاجُ أرْضاً مَرِيضَةً
تَتَبّعَ أقْصَى دَائِهَا فَثَفَاهَا
شَفَاهَا مِنَ الدّاءِ العُضَالِ الذِي بها
غُلامٌ إذَا هَزّ القَنَاةَ سَقَاهَا
سَقَاهَا، فَرَوّاهَا بِشُرْبٍ سِجَالُهُ
دِمَاءُ رِجَالٍ حَيْثُ قَالَ حَمَاهَا
إذَا سَمِعَ الحَجّاجُ رِزّ كَتِيبَةٍ
أعَدّ لهَا قَبْلَ النّزُولِ قِرَاهَا
أعَدّ لَهَا مَسْمُومَةً فَارِسِيّةً
بِأيْدِي رِجَالٍ يَحلُبُونَ صَرَاهَا
فَمَا وَلَدَ الأبْكَارُ وَالعُونُ مِثْلَهُ
بِنَجْدٍ وَلا أرْضٍ يَجِفّ ثَرَاهَا
وعندما انتهت قال الحجاج: قاتلك الله، والله لم يصب شاعر صفتي منذ دخلت العراق غيركِ، ومن ثم قال لها: حسبكِ، فقالت له ليلى الإخليلية: لقد قلت فيك أكثر من ذلك، فقال لها: حسبكِ، ثم أمر الحرس أن يقطعوا لسانها، فأحضر الحارس الحجام يريد أن يقطع لسانها، فقالت له: لقد أمرك الأمير أن تقطع لساني بالصلة وليس بالحجام، فذهب الحارس إلى الحجاج يسأله، فغضب الحجاج غضبًا شديدًا، وهمّ يريد أن يقطع لسانه، ومن ثم قال: ارددها علي.
وعندما دخلت ليلى على الحجاج، قالت له: لقد كاد أن يقطع لساني، ثم أنشدت قائلة:
حَجّاجُ! أنتَ الذي مَا فَوْقَهُ أحَدٌ
إلاّ الخَلِيفَةُ وَالمُسْتَغْفَرُ الصَّمَدُ
حَجّاجُ! أنتَ شهابُ الحرْبِ إذ لقِحت
وَأنتَ للنّاسِ في جِنحِ الدُّجَى تَقِدُ
فقال الحجاج لجلسائه: أتدرون من هي؟، فقالوا له: لا والله، فقال لهم: هي ليلى الإخليلية، من مات توبة في حبها، ومن ثم نظر الحجاج إليها، وقال لها: أنشدينا بعض ما قال فيكِ توبة، فقالت له: أمرك يا مولاي، هو الذي قال:
وَهَلْ تَبْكِيَنْ لَيْلى إذا مَا بكَيتُها
وَقَامَ عَلى قَبْرِي النّسَاءُ النّوائحُ
كمَا لَوْ أصَابَ المَوْتُ لَيْلى بكَيتُهَا
وَجَادَ لهَا دَمْعٌ مِنَ العَينِ سَافحُ
وَأُغْبَطُ مِنْ لَيلى لا أنَالُهُ
بلى! كُلُّ مَا قَرّتْ بِهِ العَينُ صَالحُ
وَلَوْ أنّ لَيلى الأخيَلِيّةَ سَلّمَتْ
عليّ، وَدُوني تُرْبَةٌ وَصَفَائحُ
لسَلَّمْتُ تَسْلِيمَ البَشَاشَةِ أوْ زَقَا
إليها صَدىً من جانِبِ القَبرِ صَائحُ
فقال لها الحجاج: زيدينا، فقالت: هو الذي قال:
حَمَامَةَ بَطنِ الوَادِيَينِ تَرَنّمِي
سَقَاكِ مِنَ الغُرّ الغَوَادِي مطيرُهَا
أبيني لنا، لا زَالَ رِيشُكِ نَاعِماً
وَلا زِلتِ في خَضرَاءَ غَضٍّ نضِيرُهَا
وَأُشْرِفُ بِالقَوْزِ اليَفَاعِ لَعَلّني
أرَى نَارَ لَيلى أوْ يَرَاني بَصِيرُهَا
وَكُنتُ إذا مَا جِئتُ ليلى تَبَرْقَعَتْ
فَقَدْ رَابَني مِنها الغدَاةَ سُفُورُهَا
يَقُولُ رِجَالٌ: لا يَضِيرُكَ نَأيُهَا
بَلى! كلُّ ما شَفّ النّفوسَ يَضِيرُهَا
بَلى يَضِيرُ العَينَ أن تُكثرَ البُكَى
وَيُمْنَعَ مِنْهَا نَوْمُهَا وَسُرُورُهَا
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيلى بِأنّيَ فَاجِرٌ
لنَفسِي تُقَاهَا، أوْ عَلَيها فُجورُهَا
ومن ثم قال لها الحجاج: وما كان رأيه في كشفك لوجهك؟، فقالت له: أيّها الأمير، لقد كان يلوم علي كثيرًا، ومن ثم قال لها الحجاج: هل رأيتِ منه يوما شيئًا تكرهينه؟، فقالت له: لا والله، ولكنّه في يوم قال لي قولًا ظننت منه أنّه خضع فيه لما يقول الناس، وقال فيه:
وذِي حَاجَةٍ قُلْنَا لَهُ: لا تَبُحْ بهَا
فَلَيْسَ إلَيهَا مَا حَيِيتُ سَبِيلُ
لَنَا صَاحِبٌ لا يَنْبَغي أنْ نَخُونَهُ
وَأنتَ لأخرَى فَارِغٌ وَحَلِيلُ.
وغير ذلك لم أر منه شيئًا أكرهه، حتى فرق الموت بيني وبينه.
فأمر لها الحجاج بالهدايا والأموال، ومن ثم غادرت مجلسه.