قصة قصيدة “فيا ليت ليلى وافقت كل حجة”:
وأمّا عن مناسبة قصيدة ” فيا ليت ليلى وافقت كل حجة” فيروى يأن قيس بن الملوح الملقب ب ” مجنون ليلى ” وبعد أن ماتت محبوبته ليلى، كان يتردد إلى قبرها، ويمضي نهاره عنده باكيًا، حتى جفَ جلده عن عظمه، واشتدت حالته سوءاً، ومكث على ذلك برهة من الزمن.
وأتى إلى ديار بني عامر رجل يريد لقاء قيس، فدخل عند أباه، وكان شيخًا كبيرًا من حوله أولاده، وكان ظاهر عليهم أنّهم من ذوي الأموال، فسألهم عن المجنون، وعندها بكا الجميع بكاءً شديدًا، ثم قال له الشيخ: والله إنّ قيسًا كان أحسن هؤلاء، وإنّه عشق فتاة من قومه لم تكن في الجاه مثله، فلما أراد أن يتزوجها لم أكن أظنّ أنّه قد بلغ من حبّها مابلغ، وعندما إزداد حبه لها، ذهبنا لكي نطلبها من والدها له، ولكنّه رفض وزوجها من غيره، فجنّ ابني بها.
وعندها قمنا بتقييده وحبسه، فأصبح يعض على لسانه وشفتيه حتى كاد أن يقطعهما، وعندها قمنا بإخلاء سبيله، فأصبح يخرج إلى الصحراء ويجالس الوحوش، ونحن نبعث إليه زاده كل يوم، ونضعه له حيث يجلس، فإذا ذهبنا من عنده أقبل على الطعام وتناوله، فقال لهم الرجل أنّه يريد لقاءه وطلب منهم أن يدلُّوه عليه، فقالو له بأن يخرج على الصحراء وهنالك سوف يجده، فقال لهم: وكيف أجعله يتكلم معي؟، فقالوا له: قل شعر قيس بن ذريح فإنّه معجب به.
فخرج الرجل إلى الصحراء باحثًا عنه، ووجده جالسًا يلعب بالتراب، فاقترب منه وجلس بجانبه، وقال: لقد أحسن قيس بن ذريح عندما قال:
وَإِنّي لَمُفنٍ دَمعَ عَينِيَ بِالبُكا
حِذارَ الَّذي قَد كانَ أَو هُوَ كائِنُ
وَقالوا غَداً أَو بَعدَ ذاكَ بِلَيلَةٍ
فِراقُ حَبيبٍ لَم يَبِن وَهوَ بائِنُ
وَما كُنتُ أَخشى أَن تَكونَ مَنيَّتي
بِكَفَّيكِ إِلّا أَنَّ ما حانَ حائِنُ
فبكى قيس بكاءً شديدًا وسالت دموعه على خده وأنشد قائلًا:
لِصَفراءَ في قَلبي مِنَ الحُبِّ شُعبَةٌ
هَوىً لَم تَرُمهُ الغانِياتُ صَميمُ
بِهِ حَلَّ بَيتَ الحَيِّ ثُمَّ اِنثَنى بِهِ
فَزالَت بُيوتُ الحَيِّ وَهوَ مُقيمُ
وَمَن يَتَهيَّض حُبَّهُنَّ فُؤادَهُ
يَمُت وَيَعِش ما عاشَ وَهوَ سَقيمُ
فَحَرّانَ صادٍ ذيدَ عَن بَردِ مَشرَبٍ
وَعَن بَلَلاتِ الماءِ وَهوَ يَحومُ
وقال أيضًا:
لَم تَزَل مُقلَتي تَفيضُ بِدَمعِ
مِثلِ الغُيوثِ مُذ فَقَدَتها
مُقلَةٌ دَمعُها حَثيثٌ وَأُخرى
كُلَّما جَفَّ دَمعُها أَسعَدَتها
ما جَرَت هَذِهِ عَلى الخَدِّ حَتّى
لَحِقَت تِلكَ بِالَّتي سَبَقَتها
دَمعَةٌ بَعدَ دَمعَةٍ فَإِذا ما
لَحَقَت تِلكَ هَذِهِ أَحدَرَتها
فقال له الرجل: أقسم عليك أن تقول لي بعضًا من أشعارك، فأنشد قيس يقول:
أَلا هَل طُلوعُ الشَمسِ يُهدي تَحيَّةً
إِلى آلِ لَيلى مَرَّةً أَو غُروبُها
أَتُضرَبُ لَيلى إِن مَرَرتُ بِذي الغَضى
وَما ذَنبُ لَيلى إِن طَوى الأَرضَ ذيبُها
أَجَل وَعَلَيَّ الرَجمُ إِن قُلتُ حَبَّذا
غُروبُ ثَنايا أُمِّ عَمروٍ وَطيبُها
وقال أيضًا:
فَيا لَيتَ لَيلى وَافَقَت كُلَّ حَجَّةٍ
قَضاءً عَلى لَيلى وَأَنّي رَفيقُها
فَتَجمَعَنا مِن نَخلَتَينِ ثَنِيَّةٌ
يَغَصُّ بِأَعضادِ المَطِيِّ طَريقُها
فَأَلقاكِ عِندَ الرُكنِ أَو جانِبَ الصَفا
وَيَشغَلَ عَنّا أَهلَ مَكَّةَ سوقُها
فَأُنشِدُها أَن تَجزِيَ الهَونَ وَالهَوى
وَتَمنَحَ نَفساً طالَ مَطلاً حُقوقُها
وعندما أنهى قيس شعره، غادره الرجل وعاد إلى ديار عامر، وقصّ على أهله بما حدث له مع قيس وما أنشد عليه من شعره، فقالوا له: ويحك، نريدك أن تعود إليه وتأتينا بقصيدة الثمدين التي قالها، فإنّنا والله قد جهدنا على أن ننسخها ولم نقدر على ذلك، فعاد الرجل إلى قيس ووجده في نفس مكانه، وجلس بجانبه، وقال له: والله لقد أحسن قيس بن ذريح عندما قال:
فوا كبدي وعاودني رداعي
وكان فراق لبنى كالخداع
تكنفني الوشاة فأزعجونـي
فيا لله للواشي المـطـاع
فأصبحت الغداة ألوم نفسي
على شيءٍ وليس بمستطاع
كمغبونٍ يعض علـى يديه
تبين غبنه بعـد الـبـياع
فقال له المجنون: بلى والله، ثم سكت لبرهة،وقال: أنا أشعر منه، وأنشد قائلًا:
فَوَاللَهِ ثَمَّ وَاللَهِ إِنّي لَدائِبٌ
أُفَكِّرُ ما ذَنبي إِلَيكِ فَأَعجَبُ
وَوَاللَهِ ما أَدري عَلامَ هَجَرتِني
وَأَيَّ أُموري فيكِ يا لَيلَ أَركَبُ
أَأَقطَعُ حَبلَ الوَصلِ فَالمَوتُ دونَهُ
أَمَ اَشرَبُ كَأساً مِنكُمُ لَيسَ يُشرَبُ
أَمَ اَهرُبُ حَتّى لا أَرى لي مُجاوِراً
أَمَ اَفعَلُ ماذا أَم أَبوحُ فَأُغلَبُ
وعندها استحلفه الرجل بأن ينشد عليه قصيدة الثمدين، وكان قد أخذ معه قلمًا وقرطاسًا لكي يكتبها عندما ينشده إياها قيس، فأنشده قيس قائلًا:
تَذَكَّرتُ لَيلى وَالسِنينَ الخَوالِيا
وَأَيّامَ لا نَخشى عَلى اللَهوِ ناهِيا
بِثَمدَينِ لاحَت نارَ لَيلى وَصَحبَتي
بِذاتِ الغَضا تَزجي المَطِيَّ النَواجِيا
فَقالَ بَصيرُ القَومِ أَلمَحتُ كَوكَباً
بَدا في سَوادِ اللَيلِ فَرداً يَمانِيا
فَقُلتُ لَهُ بَل نارَ لَيلى تَوَقَّدَت
بِعَليا تَسامى ضَوؤُها فَبَدا لِيا
فَلَيتَ رِكابَ القَومِ لَم تَقطَعِ الغَضا
وَلَيتَ الغَضى ماشى الرِّكابَ لَيالِيا
فكتبها الرجل وأخذها إلى قومه فكتبوها.