قصة قصيدة “قولي لطيفك ينثني”:
أمّا عن مناسبة “قولي لطيفك ينثني” فيروى بأنّ أمير المؤمنين هارون الرشيد كان في يوم خارج مع حاشيته، وكان منهم رجلًا يدعى جعفر البرمكي، فمروا بمجموعة من الفتيات، على البحيرة يجمعن الماء، فأراد هارون الرشيد أن يشرب الماء ونزل عن ظهر حصانه، وإذ بواحدة من الفتيات تلتفت عليه، وعندما رأته وعرفته أنشدت تقول هذه الأبيات:
قولِّي لطيفك ينثني
عن مضجعي وقت المنام
كي أستريح وتنطفي
نار تأجج في العظـام
دنف تقلبه الأكف
على بساط مـن سـهـام
أمّا أنا فكما علمت
فهل لوصلك مـن دوام
فأعجب هارون الرشيد بشعرها، وفصاحتها، وشدّه أيضًا ملاحتها وجمالها، وقال لها: يا بنت الأكارم، هل هذا الشعر لك أم نقلته عن غيرك، فقالت له: بل هو لي يا أمير المؤمنين، فقال لها هارون الرشيد: إن كان هذ الشعر لك فاحتفظي بالمعنى، وغيري القافية، فأنشدت البنت تقول:
قولِّي لطيفك ينثني عن مضعجي وقت الوسن
كي أستريح وتنطفي نار تأجج في الـبـدن
دنف تقلبه الأكف على بلاط مـن شـجـن
أمّا أنا فكما علمت فهل لوصلك من ثـمـن
فقال لها هارون الرشيد: وهذه أيضًا قد سرقتها، فقالت له الفتاة: بل هو شعري، فقال لها: إن كان هذا من كلامك فاحتفظي بالمعني وغيري من قافيته، فأنشدت الفتاة تقول:
قولِّي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الرقاد
كي أستريح وتنطفي نار تأجـج بالـفـؤاد
دنف تقلبه الأكف على بساط مـن سـهـاد
أما أنا فكما علمت فهل لوصلك من سـداد
فقال لها أمير المؤمنين: وهذا أيضًا قد سرقته، فقالت له: بل هو كلامي، فقال لها: إن كان كلامك فاحتفظي بالمعنى وغيري من قافيته، فأنشدت تقول:
قولِّي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الهجوع
كي أستريح وتنطفي نار تأجج في الضلـوع
دنف تقلبه الأكف على بساط مـن دمـوع
أمّا أنا فكما علمت فهل لوصلك من رجوع
فقال لها هارون الرشيد: من أين أنت أيتها الفتاة؟، فقالت له: أنا من أوسط ذاك الحي بيتًا، وأعلاه عمدانًا، ففهم الأمير بأنها ابنة كبير القوم، ثم قامت الفتاة بسؤاله وقالت: من أي رعاة خيل أنت؟، فرد عليها هارون الرشيد وقال: من أعلاه شجرًا وأينعه ثمرًا، فقامت الفتاة بتقبيل الأرض، ومن ثم قالت: أيّد الله أمير المؤمنين، وقامت بالدعاء له، ثم انصرفت في طريقها هي والفتيات اللواتي كنّ معها.
وبعد أن ذهبت الفتاة، التفت أمير المؤمنين إلى جعفر وقال له: لا بد أن أتزوج منها، فذهب جعفر إلى أبيها وقال له: إنّ الخليفة هارون الرشيد يريد الزواج من ابنتك، فقال له والدها: حبًا وكرامة تهدى لأمير المؤمنين جارية، فجهزت الفتاة وتمّ حملها إلى قصر الخليفة وتزوج بها، وكانت من أحب نسائه إلى قلبه.
وفي يوم توفي والدها، ووصل خبر وفاته إلى أمير المؤمنين، فدخل على زوجته وهو كئيب، وعندما شاهدته نهضت ودخلت إلى غرفتها، وخلعت عنها ثيابها وقامت بارتداء الأسود حدادًا، فسألوها عن سبب ذلك، وقالت لهم: مات أبي، فذهبوا إلى الخليفة وأخبروه بذلك، فدخل عليها وقال لها: من الذي أخبرك بوفاة أبيك، فقالت له: وجهك، فقال لها: وكيف ذلك: فقالت له: لأنّي منذ دخلت قصرك، لم أرك هكذا إلّا في هذه المرّة، ولم يكن عندي ما أخاف عليه سوى أبي، فبكى هارون الرشيد، وعزّاها في أبيها، وبقيت مدة حزينة على أبيها، ثم توفيت.