قصة قصيدة “وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه”:
أمّا عن مناسبة قصيدة “وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه” فقد أراد الله لأبي الطيب المتنبي أن يلتقي بسيف الدولة الحمداني، وأن يمتزج تاريخه بتاريخ الأمير على مر العصور والأيام، وذلك بأنه قد كان أبو العشائر واليًا على مدينة إنطاكية، وقد عينه عليها الأمير سيف الدولة الحمداني.
وفي يوم من سنة ثلاثمائة وسبع وثلاثين قدم سيف الدولة الحمداني على إنطاكية، ودخل إلى قصر أبي العشائر، وكان بمجلسه أبو الطيب المتنبي، فقام أبو العشائر بتقديم أبي الطيب إلى سيف الدولة، وقام بالإثناء عليه أمامه، وقبل أن يقوم أبو الطيب بمدح سيف الدولة اشترط عليه ألا يقول فيه الشعر إلا وهو جالس، وألا يقوله وهو واقف، وأن لا يقوم بتقبيل الأرض بين يدي الأمير، وكان ذلك ممّا أوحت به نفسه الطموحة والتي لا تقبل الهوان، فقد تعود أن يكون صديقًا وصاحبًا لمن يقوم بمدحه، وقد كان سيف الدولة سمح النفس كريم الأخلاق، فكان من السهل عليه أن يتخذ المتنبي صديقًا له، فقبل سيف الدولة الحمداني بشرطي أبي الطيب، وكان ذلك ما ميّز أبو الطيب عن غيره من الشعراء، فأنشد فيه قائلًا:
وَفاؤُكُما كَالرَبعِ أَشجاهُ طاسِمُه
بِأَن تُسعِدا وَالدَمعُ أَشفاهُ ساجِمُه
وَما أَنا إِلّا عاشِقٌ كُلُّ عاشِقٍ
أَعَقُّ خَليلَيهِ الصَفِيَّينِ لائِمُه
وَقَد يَتَزَيّا بِالهَوى غَيرُ أَهلِهِ
وَيَستَصحِبُ الإِنسانُ مَن لا يُلائِمُه
بَليتُ بِلى الأَطلالِ إِن لَم أَقِف بِها
وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التَربِ خاتَمُه
كَئيباً تَوَقّاني العَواذِلُ في الهَوى
كَما يَتَوَقّى رَيِّضَ الخَيلِ حازِمُه
قِفي تَغرَمِ الأَولى مِنَ اللَحظِ مُهجَتي
بِثانِيَةٍ وَالمُتلِفُ الشَيءَ غارِمُه
سَقاكِ وَحَيّانا بِكِ اللَهُ إِنَّما
عَلى العيسِ نورٌ وَالخُدورُ كَمائِمُه
وَما حاجَةُ الأَظعانِ حَولَكِ في الدُجى
إِلى قَمَرٍ ما واجِدٌ لَكِ عادِمُه
إِذا ظَفِرَت مِنكِ العُيونُ بِنَظرَةٍ
أَثابَ بِها مُعيِ المَطِيِّ وَرازِمُه
ومن بعدها صحب أبو الطيب المتنبي سيف الدولة الحمداني ثمان سنين، فكان جليسه ونديمه، وصحبه في الحروب والغزوات، وفي خلال هذه الثمان سنين نظم أبو الطيب ألف وخمسمائة واثني عشر بيتًا من الشعر، في ثمان وثلاثين قصيدة، وإحدى وثلاثين قطعة، وكان من هذه القصائد ما يصف حروب سيف الدولة مع الروم، وحروبه مع العرب، والمدح، والرثاء.