قصة قصيدة “ولائمة لامتك يا فضل في الندى”:
أمّا عن مناسبة قصيدة “ولائمة لامتك يا فضل في الندى” فيروى بأن الفضل بن يحيى وزير هارون الرشيد، خرج في يوم للصيد، وبينما هو في موكبه، رأى أعرابيًا على ناقته من بعيد، وهو متجه إليهم، فقال لمن كانوا معه: إنّ هذا يقصدني، فلا يكلمه أحد منكم غيري، وعندما اقترب الأعرابي منهم، ورأى المضارب تضرب، والخيام تنصب، والكثير من العسكر، ظنّ أنّ من أمامه هو أمير المؤمنين، فنزل عن ناقته، وتقدم إلى الفضل بن يحيى، وقال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له الفضل: أخفض من ما تقول.
فقال له الأعرابي: السلام عليك أيّها الأمير، فقال له الفضل: اجلس، فجلس، فقال له الفضل: من أين أتيت يا أخي؟، فقال له الأعرابي: من قضاعة، فقال له الفضل: من أولها أو من آخرها؟، فقال له: من آخرها، فقال له الفضل: وما الذي أتى بك كل هذه المسافة؟، فقال له الأعرابي: لقد أتيت أريد هؤلاء الأمجاد، الذين قد اشتهروا بمعروفهم في جميع البلاد، فقال له الفضل: ومن هم هؤلاء؟، فقال له الأعرابي: البرامكة، فقال له الفضل: إنّهم كثيرون ومنهم الخطير ومنهم الجليل، فمن تريد منهم؟، فقال له الأعرابي: أسمحهم وأطولهم باعًا، الفضل بن يحيى، فقال له الفضل: يا أخي، إنّ الفضل من جليلي القدر، عظيمي الخطر، لا يأتي مجلسه إلّا العالمين الفقيهين، والشعراء والأدباء، ومن ثمّ قال له: هل أنت عالم؟ فقال له الأعرابي: لا، فقال له الفضل: هل أنت أديب؟، فقال له الأعرابي: لا، فقال له الفضل: أتعرف بأيام العرب وشعرائهم؟، فقال له الأعرابي: لا.
فقال الفضل للأعرابي: لقد غرّتك نفسك، بأي ذريعة تقصده، وهو مثل ما قلت لك عنه، فقال الأعرابي: والله لم آتيه إلّا لمّا سمعت عنه من إحسانه وكرمه، وعندي بيتين من الشعر قد قلتهما فيه، فقال له الفضل: أنشدني ما قلت فيه، فإن كانا صالحين، دللتك عليه، وإن كانا غير صالحين أعطيتك شيء من مالي، وعدت إلى ديارك، فأنشد الأعرابي قائلًا:
ألم ترَ أنّ الجودَ من عهد اّدمِ
تحدَّر حتى صار يمتصُه الفضل
ولو أن أمَّاً مسَّها جوعُ طفلها
غذتْه باسم الفضلِ لأغتَذَأ الطفلُ
فقال له الفضل: أحسنت، وإن قال لك الفضل أنّه مدحني أحد الشعراء قبلك بهذين البيتين، فما تقول، فقال له الأعرابي: أقول:
قد كان ادم حين حانَ وفاته
أوصاك وهو يجود بالحوباء
بِـبَـنيه أن ترعاهم فرعيتهم
وكفيــْتَ اّدم عـــوْلةَ الأبـــناءِ
فقال له الفضل: أحسنت، وإن قال لك أنّك سرقتهما، فما تقول؟، فقال الأعرابي: أقول:
ملَّتْ جهابدُ فضلِ وزنَ نائِله
وملَّ كتّابُه إحصاء مات يهبُ
والله لولاك لم يُمدحْ بمكْرُمةِ
خلقٌ ولم يرتفع مجدٌ ولا حسبُ
فقال له الفضل: أحسنت، وإن قال لك بأنّ هذين البيتين أيضًا مسروقين، فما تقول؟، فقال له الأعرابي: أقول:
ولو قيل للمعــروف نادِ أخــا العـُـلا
لنادى بأعلى الصوت يا فضلُ يا فضلُ
ولو أنفقتَ جدواكَ من رملٍ عالجٍ
لأصــبح من جـــدواك قد نــفــد الرملُ
فقال له الفضل: وإن لم يعجباه، فما تقول: فقال الأعرابي: أقول:
وما الناسُ إلا اثنان صبٌّ وباذلُ
وإنّي لذاكَ الصبُّ والفضلُ الباذلُ
على أن ّ لي مِثْلاً إذا ذُُكرَ الورى
وليــس لفضلٍ في سماحته مثــْلُ
فقال له الفضل: أحسنت، وإن قال لك أنشدني غيرهما، فما تقول، فقال الأعرابي: أقول:
حكى الفضلُ عن يحيى سماحةَ خالدٍ
فقامت به التقوى وقام به العدلُ
وقــام به المــعروفُ شــرقاً ومغــرباً
ولم يك للمعروف بعدُ ولا قبلُ
فقال له الفضل: أحسنت، وإن قال لك بأنّه قد ضجر من الفاضل والمفضول، فما تقول؟، فقال له الأعرابي: أقول:
ألا يا أبا العباس يا واحِدَ الورى
ويا ملكاً خدُّ الملوكِ له نعلُ
إليك تسير الناسُ شرقا ومغربا
فـُرادى وأزواجاً كأنهم نملُ
فقال له: أحسنت، وإن قال لك أن تنشده غير الاسم والكنية، فما تقول؟، فقال له الأعرابي: سأنشده أربعة أبيات، لم يسبقني لها أحد، وإن طلب مني غيرهم، والله لأضعنّ قوائم ناقتي في فمه، وأعود إلى دياري غير مبالي، فخجل الفضل بن يحيى، وقال له: أنشدني الأبيات الأربعة، فأنشده الأعرابي قائلًا:
ولائمةٍ لامتْك يا فضلُ في الندى
فقــلتُ لها له يقــدحُ الـلومُ في البــحرِ؟
أتنهيْنَ فضلاً عن عطاياه للورى
فمن ذا الذي ينهى السحابَ عن المطرِ
كأنَّ نوالَ الـفضــلِ في كلِ بلــدةٍ
تَحـــدُّرُ ماء المُــزنِ فــي مهــمهٍ قــفـرِ
كأنَّ وفودَ الناس في كـل وُجْهَــةٍ
إلى الــفضلِ لاقـــوا عنده لـيلــةَ القـدرِ
فبدأ الفضل بالضحك، ومن ثم قال للأعرابي: أنا والله الفضل بن يحيى، فاطلبني ما شئت، فقال له الأعرابي: أريد عشرة آلاف درهم، فأمر الفضل رجاله بأن يعطوه عشرون ألف درهم، وعندما أخذ المال، حسده بعض رجال الفضل، وقال له أحدهم: يا مولاي، لقد سرق هذا الرجل أشعار العرب وأتاك بها، وأنت تعطيه عليها هذا المال، ثم قال له: بالله عليك، أن تأخذ سهمًا وتضعه في قوسك، وتوجهه نحو الرجل، فإن ردّ عن نفسه ببيت من الشعر، فالشعر له، وإن كان غير ذلك فشعره مسروق، ففعل الفضل ذلك، وقال للأعرابي: ردّه عن نفسك ببيت من الشعر، فأنشد الأعرابي قائلًا:
إذا مَلَكَتْ كفِّي منالاً ولم أُنِلْ
فلا انبسطتْ كفّي ولا نهَضـتْ رِجلي
على الله إخلافُ الذي قد بَذلْتُه
فلا يُبققِ لي بُخلي ولا مُتْلـفِي بـذْلي
أروني بخيلاً نال مجداً ببخــله
وهاتــوا كريماً مات مـن كثرةِ البذْلِثم
فقال الأعرابي لمن قال له بفعل ذلك: أعطه مائة ألف درهم لشعره، ومائة ألف لكي يكفينا شر قوائم ناقته، فأعطاه وأخذها الأعرابي وانصرف.