نمت التجارة في مكة في الجاهلية وكانت التجارة حكرًا عليها في ذلك الوقت، وكانت مركزًا للتجارة، وكان كل أفراد قريش يعملون في التجارة حتى النساء منهم، وفي العهد الإسلامي عاش أهل مكة والمدينة في ثراءٍ فاحش وذلك من الكنوز التي جنوها أثناء الفتوحات الإسلامية، ودخل إلى مكة ويثرب بعد ذلك عناصر أجنبية من جواري وعبيد، وأحضروا معهم ثقافاتهم من غناء وطرب إلى مكة والمدينة.
الغناء والشعر في مكة والمدينة
إن الشعر والغناء في العصر الجاهلي كان مُتلازمان، وكانت تمتهنهُ النساء في قريش وكذلك العبيد والجواري الأجنبية التي قدمت من بلاد فارس والروم أثناء الفتوحات الإسلامية، فَكانوا يغنون في مكة على شكل جوقات في الأعراس والمناسبات، فكان منهم من يضرب على الدف ومنهم من يعزف على المزمار ومنهم من يغني.
وعرف أيضًا أن المغنين الذين كانوا يذهبون إلى العراق من أجل تعلم الغناء وبعدها يرجعون إلى مكة، ورغم ذلك كله فإن الغناء في مكة لم يكن له قواعد وأسس ثابتة آنذاك، فكان المغنون وكذلك المغنيات يغنون كلٌّ حسب ذوقه.
وفي الإسلام وزمن الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الراشدين كان الغناء غير واضح المعالم لكن أدواته وَمعازفه بقيت موجودة ولم تحطم.
وذهبت الظنون والشكوك إلى أن الغناء في مكة ظلَّ مستمرًا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ونما وازدهر في زمن الخلفاء الراشدين، وإنما جاءت آراء شخصية للتابعين والصحابة مثل عمر وابن مسعود من كراهية ونبذ للغناء والعزف والطرب فيما بعد.
وفي عهد عثمان بن عفان تغيرت أحوال مكة والمدينة، حيث تحولت إلى حياة ترف ولهو خصوصًا بعد الفتح، فعادوا إلى مكة محملين بالأموال والكنوز من دول فارس والروم وغيرها من الدول التي تم فتحها.
أما عصر يزيد بن معاوية أخذ الغناء والشعر ينمو ويزدهر في المدينة ومكة، وذلك بسبب الجواري والقيان الأجنبية التي قدمت إلى البلاد بعد فتح البلدان، فنجد منهم المغنين الذين يجيدون الغناء، وقد تهافت الناس في مكة ويثرب على الغناء تهافتًا شديدًا، وبرز فيها العديد من المغنين المشهورين مثل الغريض والأبجر وابن محرز وابن سُريج وغيرهم الكثير، ومن المغنيات أسماء وبغوم وهنَّ من الجواري عمر بن أبي ربيعة.
وظهر في مكة العديد من دور الغناء مثل دار الثريا الأموية وكانت تغني فيها سمية، وكذلك دور في أطراف مكة كان يرتادها الغريض وكذلك ابن سريج كل جمعة، وكانوا يأتون لهم بكرسي يجلسون عليه ويغني كل واحدًا منهم دورًا.
وكانت دار المغنين عبارة عن نوادي للغناء، يرتاده كل من يريد سماع الغناء، ولن ننسى دور كبار أهل مكة وأشرافها فهي عبارة عن نوادي للغناء مثل عمر بن أبي ربيعة، وكان المغنون يظهرون في الأعراس والختان، وكذلك الوقوف في طريق الحجاج، وعند بستان ابن عامر.
وأعجب قضاة مكة بالغناء كباقي الناس مثل الأوقص المخزومي، وكان يرتاد دور الغناء في بداية حياته حتى أن أمه كانت تقول له في ذلك: “إنك خلقت في صورة لا تصلح معها للاجتماع إلى الفتيان في بيوت القيان، فَعليك بالدين فإن الله يرفع به الخسيسة وتمم به النقيصة”، فكان لِحديث أمه أثر في نفسه مما دفعه إلى ترك الغناء وعنه قال الناس:
“ولي قضاء مكة الأوقص المخزومي، فما رأى الناس مثله في وعفافه ونبله، فإنه لنائم في جناح له إذ مرّ به سكران يتغنى فأشرف عليه فقال: يا هذا شربت حرامًا وأيقظت نيامًا وغنيت خطبًا! فأصلحه له وانصرف.”
وتعلق الناس في مكة ويثرب بالغناء وأهله الذين أجادوا في هذا المجال، وروي أن الشاعر جرير استمع ذات مرة إلى ابن سريج وهو يغني فقال له:” لله دركم يا أهل مكة، ماذا أُعطيتم! والله لو أن نازعًا إليكم ليقيم بين أظهركم، فسمع هذا صباح مساء لكان أعظم الناس حظًا ونصيبًا.”
أنصت الحارث المخزومي والي مكة إلى المغني الغريض ذات مرة وهو يغني فقال له:” يا غريض لا لوم في حبك ولا عذر في هجرك، ولا لذة لمن لا يروّح قلبه بك يا غريض، لو لم يكن في ولاتي حظ إلا أنت لكان حظًا كافيًا وافيًا يا غريض، إنما الدنيا زينة، وأزين الزينة ما فرح النفس.”
بداية الاعتراف بالغناء زمن الوليد بن عبد الملك
ومن هنا اعترفت مكة والمدينة بِالغناء والمغنين وخصوصًا في زمن الوليد بن عبد الملك الذي حفل بقدوم ابن سريج إلى دمشق واستقبله بحفلِ مهيب، وعندما غنى له ابن سريج أنفق عليه الأموال الطائلة، ونهج نهجه أخواه سليمان ويزيد بن عبد الملك، وكان هؤلاء الأمراء يأتون بِالمغنين من مكة والمدينة إلى دمشق أو يستمعون إلى المغنين عندما يحجون إلى مكة.
وكان شعراء مكة ويثرب يكتبون أشعارهم في ذلك الوقت تحت تأثير الغناء، أمثال ابن أبي ربيعة والرُّقَّيات وغيرهم، كانوا يحيون الغناء والترف واللهو والشعر الذي طغى على أهل مكة والخلافة الأموية.
وعرف أن عمر بن أبي ربيعة كان كثير الغزل في أشعار وكذلك المديح والهجاء ولكم يكن بحاجة إلى التكسب من الخلفاء من هذه الأشعار لأنه غني لا يحتاج أموال الخلفاء، ترعرع في بيئة تقوم على الطرب والغناء والشعر، توجه عمر إلى شعر الغزل، وكذلك الكثير من الشعراء.
وقلَّ شعر المديح كثيرًا في ذلك الوقت إلا شعر الرُّقَّيات وكانت أشعاره في المديح هي أناشيد مغناه، لهذا نرى أن أهل مكة ويثرب تركوا الشعر التقليدي وأغراضه، وتوجهوا إلى ألوان الفنون الحضارية الجديدة، وتطرق الشاعر في ظل هذه الحضارة إلى الإشادة بجمال المرأة، ولاقى ذلك عند النساء قبولًا كبيرًا ولم يجدن فيه حرج، وكان في بعض الأحيان تصل إلى أن يطلب الشاعر يد المرأة لزواج من خلال الأشعار.
وهذا الأمر دفع إلى انتشار الغزل في المرأة في الأشعار واستغله ابن أبي ربيعة ولم يقتصر ذلك على النساء مكة والمدينة إنما وصل إلى الغزل في النساء العرب اللواتي يَحجُجن إلى مكة، فكان لا يترك أي امرأة تمر في مكة وفيها حسن وجمال إلا ويتغزل بها في شعره وكذلك فعل شعراء مكة،
كان المغنون سرعان ما يتلقفون أشعار الشعراء ويغنوها وكانوا يجيبون فيها البلدان ويسمعها عشاق الغناء، وكان يُدرج في هذه الأشعار المغناة أسماء النساء والفتيات، ومن هذه الأسماء نذكر ثريا الأموية التي هام فيها عمر بن أبي ربيعة ونظم فيها أشعار كثيرة، وطلب يدها للزواج لكنها رفضت وفضلت عليه سهيل بن مروان.
كما ذكر اسم زينب الجمحية في أشعاره وتزوجها فيما بعد، وكان أول لقاء بينهم في مكة عندما قدمت للحج مع أخيها وهنا رآها وتعلق بها وهام في حبها ومن الأشعار التي نظمها فيها قوله:
ما زال طرفي يحارُ إذا برزت
حتى رأيتُ النقصانَ في بصري
أبصرتُها ليلةً ونسوتها
يمشين بين المقام والحَجَر
قالت لترب لها تحدثها
لنفسدن الطوافَ في عُمر
قومي تصدّي له ليعرفنا
ثم اغمزيه يا أخت في خفَر
وفي النهاية نستنتج أن الغناء والشعر انتشر في مكة ويثرب بسبب الثراء الفاحش الذي عاش فيه أهل مكة ويثرب بعد الفتوحات الإسلامية، برز فيها العديد من المغنين والمغنيات الذين غنوا أشعار الشعراء في مكة والمدينة.