قائلُ هذهِ المَقولة كانَ أعظم مُلوكِ زمانهِ، وأعظم من حكمَ الأنَدلُس، وَطِئت خَيلهُ أرضاً لمْ تطأها قبلَهُ خيول العَرب، وخاضَ أكثر من ٥٤ معركة في بلادِ الأندلس؛ لم تَنتَكِس له فيها راية، ولم تَهلَك له سرية، ولم يَنهَزم له جيش قَطْ. كانت بعضُ جُيوشهِ تَنسى بعضَ رَاياتهَا على رؤوسِ الجِبال، فكانت جيوشُ الصّليبيّين لا تَستطِيع الإقترابَ منها خوفاً من جُيوشِ الحاجبِ المنصور بن أبي عامر.
صَاحِبُ هذهِ المَقُولة
الحَاجب المنصور؛ مُحمد بن أبي عامر بن عبدالله بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المُعافِري؛ ولدعام ٣٢٧ هـ في الجزيرة الخضراء في بيت من أعيان تلك المدينة. كان أبوه عبدالله من طُلّاب العلم المعروفين في الأندلس، وأمّه هي بُرَيهَة بنت يحيى بن زكرياء التّميمي من أهل بيتٍ من أشَرافِ قرطبة يُسَمَّونَ ببني بَرطَال، وكانَ جَدّه عبدالملك المُعافري من الدَّاخِلين للأندلس مع طارق بن زياد.
افتَتحَ دُكاناً أمام قصرِ الخليفة يكتبُ فيه الرسائل والَعرائض لأصحاب المَصالح، فَلفَتَ نَظَر مَن في القَصرِ بأسلوب كِتابتهِ وبِجَزالة عباراته، وتَميّزَ عن أقْرانهِ بِقُوّةِ إرادَتهِ وطُموحه، حتى قِيل عنه: إنه أحَد أعَاجِيب الدّنيا في سُرعة تَرقِيتِهِ والظَّفرِ بما تمَنَّاه، فإنّهُ قد حَلُمَ بأنّهُ يحكم الأندلس.
يَروى أحَدُ أصدِقائهِ، عن قِصّةِ حُلْمِهِ فقال: اجتمعنا يوماً في مُتَنزّهٍ لنا في مدينةِ قُرطُبة، ومَعنا “مُحمد بن أبي عامر”، فقال مُحمّد، وهو ما زالَ في سنِّ الشّباب:( لا بُدَّ لي أنْ أقودَ العَسكر وأنْ يَنفُذ حُكمي في جميع الأندلس)، فَهزِئنَا منه وضَحكنَا، فقال ابن عمّهِ عَمرو: أتَمنّى أنْ تُولّيَني على المدينة لأضربَ فيها ظُهور الجُنَاة، وقال ابن المَارِعزِيّ، وهوصديق آخر لمحمد بن أبي عامر: أريدُ أنْ تُولّيَني أحكامَ السُّوق، ثم قال ابن الحَسن: أتمنّى أن تُولّيَني القَضاء؛ أمّا مُوسى بن عَزرُون، فقد قالَ لمُحمد بن أبي عامر (الحاجب المنصور) كلاماً قبيحاً وسيئاً واستهزأَ به.
ودارت الأيام، وأصبحَ محمد بن أبي عامر المُلقّب بالحاجب المنصور، هو حاكمُ الأندلس؛ وتقولُ القِصّة بأنَّ الأميرة صُبح البَشكنجيّة؛ جَارية الخليفة الحَكَم المُستَنصر بالله، وأمّ ولديهِ(عبدالرحمن، وهشام)، كانت أجمل جواري بلاط الخِلافة في عَهد الخليفة الحَكَم المُستنصر بالله، وكانَ قَد شُغِفَ بها الحكم وحَظِيت عنده واسْتَأثَرت بِحُبّهِ، ومَكّنهَا بشيءٍ كثيرٍ من النّفوذ والرّأي، كما كانت كلمة الأميرة صُبح مَسمُوعة في تَعيينِ الوزراء ورجالِ الدَّولة والبِطَانَة وأغلبِ شُؤون الدّولة.
الحَاجِب المنصور يحكم الأندلس
كانَ محمد بن أبي عامر يكتبُ شَكاوى النّاس لِلخليفة، وكانت صبح زوجة الخليفة الحكم المستنصر تبحَثُ عمّن يكتب عنها رسائِلهَا فَدَلُّوهَا عليه، فَطَلبتُهُ فجاء إلى القصرِ، وسلّمتُهُ مَهمّتهُ الجديدة فَتَرقَّى في القَصرِ منذ ذلك اليوم، وبدأ نجمه يعلو ويَسْطَع، فظهرت نَجابتهُ وذَكاؤه، حتى صار قَيّمَاً ومُربيّاً ومُعلّماً لوليّ العَهد هشام بن الخليفة الحكم المُستنصر. بعْدَها يموتُ الخليفة، وكان عمر هشام ١٢ سنة، فَعُيّنَ له مَجلس وصَاية من؛ {الحاجب جعفر المُصحَفي، وقائد الثُّغور غالب النّاصريّ، وقائد الشرطة وحاكم المدينة محمد بن أبي عامر}؛ فعند وفاة الخليفة ثار الأندلسيون، وثارَ الصّقَالبة، وثارت باقي ممالك الأندلس، وتَرَبّص مُلوك الصّليبييّن بالإنقضاضِ على قرطُبة حتى كادت تُطْرَق أبوابهَا. فَلَمْ يُحرك الحاجب المُصحَفي ولا النّاصري ساكناً للتصدي لهم، فَقامَ محمد بن أبي عامر ولَمْ يَرضَ هذهِ الدَّنيّة، فجمع الرّجال وَعَبأَ الجيوش وقام بِحَملةٍ عظيمةٍ لصَدِّ المُهاجِمين والمُتَربّصين حتى هَدَأت الأمور، وقام بتَدبيرِ الخِلافة، وانتَظَمت له الممالِك، وانتشَرَ الأمن في كل مكان، وأسقط جعفراً المصحفي والنَّاصِريّ، وعمل فيه ما أراده، وأصبح حُلْم حُكْمِ الأندلس حقيقة؛ وبدأت بعد ذلك بِما يُسمّى بالدّولة العَامِريّة نِسبةً إليه.
أطَاحَ الحاجب المنصور بِكُلِّ مُعارِضيه في القَصرِ، فحجَرَ على هشام بن الحكم المُستنصِر، وسَجن صُبح البَشكنجيّة؛ وقضى على ثورةِ الصّقالبة الذين كانوا مُؤيدينَ لأعمَامِ هشام الذي قام بالحَجرِ عليه لأنه كان صغيراً لا يَصلُح للحُكم، وقضى على الجيوش في المَغرب التي كانت تُريدُ مُحاربتهِ وإسقاطِهِ عن حُكمِ الأندلس؛ ثُمّ بدأَ بإرسالِ الجيوش إلى ممالكِ الصّليبييّن وأسقَطها الواحدة تِلوَ الأخرى؛ حتّى أصبحت مُلوكُ الفِرنجه تخافُ عند سَماعِ إسمِ الحاجب المنصور. ومن ثَمَّ أتى بأصحابهِ الذينَ كانوا معهُ في المُتنزّه عندما تمنّى أنْ يُصبح حاكمَ الأندلس، فجعلَ الأول على الشُّرُطَة ؛ وجعل الثاني على السّوقِ، وجعل الثَّالِث عل القَضاء؛ ثُمَّ أتى بالرابع وهو موسى بن عَزرُون فغَرَّمهُ أموالاً جزاءَ سُخريتِهِ منه.
بلغَت الحَضارة الأندلسية في عهده أسْمَى مراتِبِ الأبّهَة والعَظَمة، فجعلَ من مدينة قُرطبة عاصمة للدُّنيا وقبلة العلم، حتى أُطلِقَ على عصره “ربيع قرطبة”، فَقدْ قَبضَ المنصور على جَمرةِ العَرشِ القُرطبيّ لرُبع قَرنٍ، لمْ يَذُق فيها الهَزيمة، لا في صِراعات الدَّاخل ولا حروب الخَارج.
فَمِن واحات المَغرب جُنوباً إلى جبال فرنسا شمالاً، ومن جُزُرِ البحر المتوسط شرقاً إلى شَاطئ المحيط الأطلسي غرباً، كانت الكلمة الأولى والأخيرة للحاجبِ المنصور، فقَدْ شَهِدَ لهُ عَدوّه قبل صديقهِ من عربٍ وبربر وإسبان وصقالبةٍ ومُولّدين؛ حتّى ضُرب به المثل في تحقيق الغاية وعلوِّ الهِمّة. فَبَعدَ موتهِ كُتِبَ على قبرهِ، بيتَينِ من الشّعر هُمَا:
آثاره تُنبِيكَ عـن أخـبَارهِ …………….حتى كَأنّكَ بالعَيانِ تراهُ.
تاللهِ لا يأتي الزّمان بمثلهِ …….. أبداً؛ ولا يَحمي الثُّغورَ سِواهُ.