تميز النثر الأدبي في جميع العصور وازدهر وظهر فيه العديد من الإبداعات الأدبية، وكان يزخر بأنواع نثرية كثيرة سواء أكانت شفاهية أو مدونة، وتعد التوقيعات من أبرز الإبداعات المدونة والمكتوبة حيث تفنن الخلفاء والولاة على مرّ الأزمان بأشكال التوقيعات فوصلت إلينا أشكال متعددة منها، وفي هذا المقال سنتعرف على معنى التوقيعات، وتاريخ نشأتها وخصائصها.
مفهوم التوقيعات
لغة: التوقيعات مفردها توقيع من الفعل الثلاثي وقع، والواقع: وقعة الضرب بالغرض، ونزول المطر ووقع حوافر الدواب: يعني الصوت الذي يتم سماعه من وقعة، والميقعة: البقعة التي تقع عليها الطيور، والواقعة: المصيبة الشديدة من أهوال الدهر، ووقائع العرب: أيامها التي وقعت فيها المعارك، والتوقيع: ما يوقع في الخطاب حيث يتبعه بعد الانتهاء منه لم يرفع إليه مثل خليفة أو سلطان.
التوقيعات اصطلاحاً: ما يدون في الكتاب، حيث يعتمد في الرد على كتاب يتم رفعه لِسلطان أو ملك أو المسؤول في الأمر، أي أنه ما يوقعه الملك أو ولاة الأمر على ما يقدم إليه من كتب في الرد مظلمة أو شكوى من أمر، أو طلب، وقد يكون للتوقيع أشكال عدة فتأتي شعراً أو آية قرآنية، أو مثل وحكمة وغير ذلك، على أن يكون ملائم القضية التي وقّع فيها.
وتعرَّف التوقيعات بالهوامش التي يدونها الملوك والوزراء وولاة الأمر على الرسائل الرسمية أو مظالم الناس المرفوعة، وتمتاز بالقصر وحسن الأسلوب ودقة البلاغة، وكانت منتشرة بين الناس يحفظونها ويتناقلونها بكثرة.
نشأة فن التوقيعات وتطورها
تعتبر التوقيعات تميز أدبي في النثر العربي تعلقت بدايتها وتطورها بنمو الكتابة، حيث بدأت تظهر ملامحها في الأفق مع الخلافة الراشدة، وخصوصاً في عهد أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وربما يعود سبب عدم انتشار هذا الإبداع إلى أمية العرب فهم لم يعرفوا القراءة والكتابة إلا عندما انتشر الإسلام فيهم، ولم تنشر بشكل كبير في ذلك الوقت إنما توسعت بشكل كبير وملحوظ بعد الخلافة الراشدة.
وهذا يقودنا إلى أن التوقيعات في بداية ظهورها كانت تدون على الرقاع والقصص وما شابه ذلك، ومن الممكن أن من التوقيع القديم مما عرفناه هو توقيع أبو بكر الصديق رضي الله عنه، حيث وقع على كتاب جاء إليه من خالد بن الوليد يَستأمره في أمر العدو: ” إدنُ من الموت توهب لك الحياة.” والمتمعن بِتوقيعات الخلفاء يجدها قليلة جداً ويرجع ذلك إلى أسباب كثيرة نذكر منها:
1- ضياع أكثرها بسبب عدم توثيقها وتدوينها.
2- انتشار العدل في عصر الخلفاء وكذلك انتشار الأمن.
3- نصرة المظلوم من قبل الخلفاء وإنزال العقوبة بالظالم.
4- تواصل الخلفاء وولاة الأمر بالرعية حيث كانوا يجلسون بينهم ويستمعون إليهم.
5- محدودية مساحة الحدود الإسلامية.
وفي العصر الأموي بدأت التوقيعات بالانتشار شيئًا فَشيئاً بخلاف ما نراه في الخلافة الراشدة، وأصبح للخلفاء الأمويين مجموعة من التوقيعات الخاصة بكل خليفة التي لا يمكن الاستهانة بها، ومثال على ذلك ما وقعه بن عامر يعاتب فيه معاوية في أمر، ووقَّع في نهاية كتابه: ” بيت أمية في الجاهلية أشرف من بيت حبيب في الإسلام، فأنت كراه”، وأيضاً توقيع معاوية في موضوع الفخر: ” نحن الزمان من رفعناه ارتفع ومن وضعناه اتضع.”
وفي الفترة العباسي تميزت هذه الفترة بِخلفائها فنجد منهم من كان شاعراً ومنهم من كان أديباً، وكانوا متعلقين بالعلماء والشعراء والفقهاء ويفتحون قصورهم أمام هؤلاء، وَاستقطبوا لبلادهم أشهر الكتّاب، وجعلوا لأبنائهم أبرز العلماء والمؤدبين ليتولوا تربيتهم وتعليمهم.
ولهذا نجد أن أدب التوقيعات قد نما وازدهر في هذا العصر، ومن أبرز التوقيعات في هذا العصر ما وقعه أبو العباس في كتاب جاءه من أهل الأنبار يشكون إليه أن منازلهم سلبت منهم حيث وقع: “هذا بناء أسس على غير تقوى”، ويمكن إرجاع أسباب ازدهار التوقيعات في الفترة العباسية إلى مجموعة من الأسباب نذكر منها:
1- كثرة الفتوحات واتساع الدولة الإسلامية.
2- تعلم الكتابة وحثّ الخلفاء الناس على التعلم أيضًا التعليم.
3- حاجة الخلفاء وولاة الأمر إلى الرد السريع على رسائلهم بسبب كثرتها وأهميتها وتأخرها يُعطل حل المشاكل، والنظر في مصالح الرعية.
4- تعدد الأعباء الموكلة إلى الولاة والوزراء والحكام بسبب تنوع إدارات الدولة وشؤونها.
5- تعلق الناس بفن التوقيعات وحبهم والتهافت على اقتنائها.
6- مواقف الخلفاء من الناس مما يدفعهم ذلك إلى الكتابة إلى المسؤول للنظر في حاجاتهم ومطالبهم.
7- تعصب وتشدد بعض ولاة الأمر وانتشار الفساد في أغلب البلاد، وكثرة الشكاوي والتظلم إلى الولاة.
8- بروز عدد كبير من الكتّاب المميزين في مجالس الخلفاء وقدرتهم الكبيرة على التآلف في مجال الأدب، وأمثال جعفر بن يحيى، وابن وابن سهل وغيرهم الكثير.
موضوعات أدب التوقيعات
1- الآية القرآنية: جاء التوقيع آية قرآنية تتوافق مع الحدث الذي تتضمنه، ومثال عليه ما وقَّعه الخليفة عثمان بن عفان في جماعة كانوا يشتكون من ظلم مروان بن الحكم، فوقع الخليفة بقوله سبحانه تعالى: “فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون”، ما وقعه المهدي رد على عامل أرمينية عندما شكى من عدم طاعة الرعية، حيث وقَّع المهدي بقوله سبحانه تعالى: “خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”.
2- بيت شعر: يمكن لِتوقيع أن يكون عبارة عن بيت من الشعر ومثال على ذلك كتب ملك قشتالة بن تاشفين، وكتب بن الباهلي إلى سليمان بن مروان ويتوعد بإنهاء حياته فوقع سليمان ببيت شعر:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا لامربعُ
وأيضاً توقيع للمتنبي:
ولا كتب إلا المشرفية والقنا
ولا رُسلٌ إلا الخميس العرمرم
3- المثل الدارج: حيث يمكن لتوقيع أن يكون مثلاً معروفاً ومتداولاً، ومثال على ذلك توقيع ابن الوليد إلى مروان الأموي الذي تأخر في مبايعته، حيث وقع له المثل: ” أراك تُقدم رجلاً وتأخر أخرى، فإذا جاءك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت”، كذلك توقيع بن عباد في كتاب رُفع إليه في رجل عصى له أمراً فوقع: ” العصا لمن عصى”.
4- الحكمة: جاءت التوقيعات على شكل حكمة ومثال على ذلك ما وقعه أبو العباس السفاح في كتاب جاءه من جماعة يشكون إليه قلة أرزاقهم فوقع في رده عليهم: “من صبر في الشدة شارك في النعمة”.
شروط أدب التوقيعات
1- الإيجاز: حيث تكون مفرداتها قليلة لكن تحمل معاني كثيرة، حيث استرسلت مجموعة في إيجاز التوقيعات واختصارها؛ حتى أنها وصلت إلى حد التوقيع بحرف أو نقطة، مثلما فعل بن عباد عندما وقع في رسالة بحرف الألف، ورسالة أخرى وقّع بنقطة.
2- البلاغة: ويقصد بذلك أن يكون ملائماً للمواقف أو القصة التي قيل فيها، وأن يكون بطريقة بليغة وألفاظ قوية سلسة وتحمل صور بيانية وَمحسنات معنوية مثل الكناية والجناس.
3- الإقناع: بحيث يكون التوقيع واضحاً شاملاً ومقنعاً فيقطع الطريق على المخاطب فلا يراجع في شيء، ومثال عليه ما وقعه هشام بن عبد الملك في قصة رجل مظلوم يطلب نصرته حيث وقع: ” أتاك الغوث كنت صادقاً، وحلّ بك النكال إن كنت كاذباً، فتقدم أو تأخر.”
وفي النهاية نستنتج أن النثر العربي قد ازدهر في جميع العصور، وظهر فيه العديد من الآداب والفنون النثرية الشفاهية أو المدونة وفيها التوقيعات التي تفنن بها الخلفاء والولاة الأمر، فَوصلت إلينا بأشكال عديدة ومتنوعة.