لقد ذكر العصر الأندلسي بجميل ما فيه من ازدهار وجمال فاق التصور وكثرت فيها حياة الرَّغد والهناء حتى أنجبت الأندلس شعراءً فحولاً تميزوا بشعرهم المنتقى صانعين من قصائدهم لوحاتٍ فنيَّة تجذب القارئ حتى يتماها فيها،فقد استطاعوا أنْ يُزوِّدوا خزينة الأدب بالشَّهيِّ النقيِّ من القصائد الممزوجة بنكهَة الأندلس وطبيعة البلاد، وقصَّة الممالِك وملوكِ الطَّوائف في هذه البلاد. واستَطاعوا أيضاً من جهةٍ أخرى أنْ ينقُلوا لنا صورة المَآسي والويلات التي حَلَّتْ بهذه الأرض_ أرض الفِردوس المفقود_. ولَعلَّ أشهر هؤلاء الشُّعراء؛ الشَّاعر الأندلسيّ الكبير” أبي البَقاء الرَّندِي” الذي لم يترك من فنون الشعر فنَّاً إلَّا وزاره وانتقى أعذبه ليصنع منه باقة من أعذب وأجمل القصائد التي وصلت إلينا من شعره العذب الجميل ، فنرى الأدباء والشُّعراء ما زالوا يتناقلونها ويحفظونها ويفسرونها جيلا بعد جيل
صاحب القصيدة
أبو البَقاء صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف الرَّندِي الأندلسي 601هـ/ 1204م؛ يُكنّى بأبي البَقاء، وقد وُلِدَ أبو البقاء الرَّندِيّ في مدينة رَندَة في الأندلس ولُقِّبَ بالرّندي نسبةً لاسمِ مدينته.
كان أبو البَقاء الرَّندي فقيهاً حافظاً للحديث الشريف، يملك من القُدرة اللُّغوية ما يُمكِّنُهُ من نَظم الكلام ببراعة كبيرة، وهذا العِلم صَقَلَ موهبته في الشِّعر، فكتبَ في المديح والغزل والزُّهد، ولكنَّ هذا الشعر لم يلعبْ في شهرة أبي البقاء دوراً مهمّاً، وإنَّما صِيتهُ الأدبي ذاعَ بعد قصيدته الشهيرة التي رَثى فيها الأندلس.
عَاشَ فِي النِّصفِ الثَّاني مِنْ القرنِ السَّابع الهجريِّ، وعاصَرَ الفِتنَ والاضطرَاباتِ الَّتي حدَثتْ مِن الدَّاخلِ والخارجِ في بلاد الأندلسِ آن ذاك، وشَهِدَ شاعرنا سقوطَ مُعظمِ القواعدِ الأندلسيَّةِ فِي يدِ الإسبانِ آنَ ذاك، ونرى حياتَه التَّفصيليةِ تَكادُ تكونُ مجهولةً، إلَّا أنَّ قصيدَتهُ الَّتي عُرِِفتْ باسمِ” رِثاءِ الأندلسِ” والَّتي تناقلها الناس، وذُكِرت في كُتبِ الأدبِ، هي الَّتي أشْهَرتهُ، وإنْ كانَ لهُ غَيرها مِمَّا لم يَشتَهِر. وقالَعنهُ” عبدُ الملكِ المَرَّاكشِي” في كِتابهِ( الذَيلُ والتَّكملةُ):
” وقد كان خاتمةُ الأدباءِ في بلاد الأندلس، بارعٌ في التَّصرُّفِ في منظومِ الكلامِ ونثرهِ، فقيهَاً حَافظاً فَرضيَّاً، لهُ مقاماتٍ بديعةٍ في شتَّى أغراضِ الكلامِ”.
وقد تُوفِّيَ أو البقاء الرندي عام 1285م، عن عمر ناهز الخامسة والسبعين تاركاً وراءَه نتاجاً شعريّاً يَصِف مأساة سقوط الأندلس، ويكشفها للناس جيلاً بعد جيل.
قصة القصيدة
بعدَ أنْ بدأت المُدن الأندلسية تَتهاوى وتَسقط في يدِ الإسبان واحدة تلو الأخرى، وعندما أخذ ابن الأحمر” محمد بن يوسف”، أول سلاطين غرناطة في التَّنازل للإسبان عن عدد من القلاع والمُدن إرضاءً لهم وأملاً في أنْ يبقى على حُكمهُ مُستَقِرّاً في غرناطة دون حروب.
وكتَبَ أبو البَقاءِ في هذِهِ القصيدةِ أبياتاً جميلةً استَنصرَ فيها” المَرِينِيّينَ” مِنْ أَهلِ أَفريقيَّا حتَّى ينصُروا قَومَهُ، بعد أنْ بدأ حاكمُ غرناطَةَ” محمدٌ بن يوسُف” بالتَّنازل عن المُدن والحصون العربية للإسبان.
وتأثَّرَ أبو البقاء الرَّندِيّ عندما كتبَ قصيدتهُ هذه في رثاء الأندلس، بالقصيدة النُّونيّة الشَّهيرة،” لأبي الفتح علي بن محمد الكاتب البَستِيّ” حيث يقول في مَطلعهَا:
زِيـادَةُ المَرءِ فـِي دُنيـاهُ نقصـانُ ورِبْحُـهُ غَيْرَ محضِ الخَيرِ خُسـْرانُ
وكُلُّ وِجـدانِ حَظٍّ لا ثَبـاتَ لَـهُ فإنَّ مَعنـاهُ فـي التَّحقيق فُقْـدانُ
وهذهِ أبياتُ مَرثِيَّةُ الأندلسِ لأبِي البقاءِ الرَّندِي؛ الَّتي أُخِذَ منها عنوان المقال:
لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصان
فلا يغرَّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دُولٌ
من سرَّه زمنٌ ساءتهُ أزمانُ