علم المناخ التفصيلي:
إن في نهايات القرن التاسع عشر ظهر في ألمانيا نوع جديد من الدراسات المناخية التي فرضتها الحاجة الشديدة من أجل مضاعفة استغلال الأراضي الزراعية حتى يمكنها أن تواجه التزايد المستمر في عدد السكان، كما رأى بعض الباحثين وعلى رأسهم كرواس بأن علم المناخ يمكنه أن يقدم خدمات كثيرة لهذا الاستغلال، لكنهم لاحظوا أن الدراسات المناخية العامة التي تعتمد فقط على المعدلات التي تنشرها المراصد المختلفة كثيراً ما تعطي صورة مشوهة لما هو موجود في الطبيعة فعلاً؛ ذلك بسبب اهمال هذه المعدلات كثيراً من التفاصيل المهمة التي قد تكون لها آثار عظيمة في حياة النباتات.
كما أنه يتم اهمال في معظم الأحيان مراعاة الظروف الجغرافية المحلية التي يكون لها أحياناً أثر واضح في تنوع المناخ واختلافه من بقعة إلى أخرى في الإقليم الواحد، بالإضافة إلى ذلك فإن هذه الدراسات العامة لم تكن لها الفائدة الموجوة في الحياة العملية خصوصاً فيما يتعلق منها بالاستغلال الاقتصادي للأرض، فالمزارع مثلاً لا يهمه كثيراً أن يعرف المعدلات الشهرية والسنوية للمطر أو درجة الحرارة في الإقليم الذي يعيش فيه بصفة عامة، بل إن الذي يهمه قبل كل شيء هو أن يعرف الظروف المحلية الخاصة بحقله.
وهي الظروف التي تجعل هذا الحقل مختلفاً اختلافاً كبيراً عن باقي الحقول التي تتعقد فيها مظاهر السطح، حيث نجد مثلاً أن الجبل الواحد قد تتمثل عليه جميع أنواع المناخ تقريباً، فبصرف النظر عن الحقيقة المشهورة الخاصة بتناقص في درجة الحرارة كلما زاد الارتفاع، حيث نلاحظ بأنه يوجد هناك فرقاً كبيراً جداً بين مناخ الجوانب المختلفة للجبل الواحد، ففي نصف الكرة الشمالي تكون الجوانب الجنوبية عادة أكثر دفئاً ونصيبها من أشعة الشمس أكبر من الجوانب الشمالية.
كما أن النظام اليومي لدرجة الحرارة يختلف اختلافاً واضحاً من جانب إلى آخر، هذا بحسب درجة الميل التي تنزل بها أشعة الشمس على سطح الأرض واختلاف أوقات سقوطها على الجوانب المختلفة، ومن المعروف كذلك أن الجوانب المواجهة لهبوب الرياح المحملة ببخار الماء تكون دائماً أغزر مطراً من الجوانب المضادة التي تقع فيما يعرف باسم (ظل القمر)، حيث أن ارتفاع الجبال وشكلها يساعدان على خلق أنواع متباينة من المناخ، فإن هذا هو أيضاً شأن كل من الوديان والمنخفضات، فإن قاع الوادي يكون عادة أدفأ أثناء النهار من جوانبه.
أمَّا خلال الليل فيحدث العكس؛ ذلك لأن الهواء البارد يميل دائماً للنزول بسبب ازدياد كثافته، حيث يتجمع في قيعان الوديان والمنخفضات ولهذا فإن الحقول التي توجد في هذه القيعان (في المناطق المعتدلة الباردة) تكون عادة أكثر تعرضاً لخطر الصقيع من الحقول التي على الجوانب المرتفعة، حيث أن هذه الحقيقة تكون واضحة كذلك بالنسبة لمنحدرات الجبال، حيث تكون المناطق السفلية منها أبرد أثناء الليل من المناطق العليا، ذلك على العكس ممَّا هو معروف عموماً عن تناقص درجة الحرارة بالارتفاع.
وليس من شك في أن النباتات التي تعمل على تغطية سطح الأرض في بعض الأماكن ونسبة كثافتها لها كذلك تأثيراً واضحاً على المناخ وهو تأثير رائع في أغلب الأحيان ويكفي أن نشير إلى ما نلمسه في حياتنا العامة من فرق واضح بين كل من مناخ المدن ومناخ الريف، ولو أنه يجب أن نلاحظ من ناحية أخرى أن ظروف المدن نفسها بما فيها من أبنية ومصانع وما ينتشر في جوها من أتربة ودخان ومواد عالقة، وفي منازلها من مواقد، فإن كل ذلك له دخل كبير في إظهار الفرق بين مناخ المدن ومناخ الريف.
وليس كل ما ذكرناه هنا إلا بضعة أمثلة بسيطة فقط للدور الهام الذي يمكن أن تلعبه الظروف المحلية في تنوع مظاهر المناخ وما يترتب على ذلك من تنوع في مظاهر الحياة المختلفة داخل المنطقة الواحدة، لهذا فإننا نجد أن الجغرافيين أخذوا في السنوات الأخيرة يهتمون بشكل خاص دراسة تفاصيل المناخ في مناطق تكون صغيرة ومساحتها محدودة، أكثر من اهتمامهم بدراسة المظاهر العامة في مناطق واسعة وقد أدى هذا الاتجاه الحديث إلى تشعب علم المناخ واتساع مجال البحث فيه من هذه الناحية أيضاً.
كما بدأنا نقرأ عن مواضيع جديدة وكثيرة مثل مناخ الجبال، مناخ الوديان، مناخ المدن، مناخ سطح التربة أي على ارتفاع لا يزيد عن متر واحد، غير ذلك من الموضوعات التي أصبح يضمها فرع جديد شديد الأهمية من علم المناخ يطلق عليه اسم (علم المناخ التفصيلي أو الميكروسكوبي).