الإنسان بين السمو والانتكاس

اقرأ في هذا المقال


﴿وَٱلتِّینِ وَٱلزَّیۡتُونِ (١) وَطُورِ سِینِینَ (٢) وَهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِینِ (٣) لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِیۤ أَحۡسَنِ تَقۡوِیمࣲ (٤) ثُمَّ رَدَدۡنَـٰهُ أَسۡفَلَ سَـٰفِلِینَ (٥) إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَیۡرُ مَمۡنُونࣲ (٦)﴾ [التين ١-٦]

التفسير :

سلك المفسرون في وجه اختيار هذه الأشياء من ثمر وشجر، وجبل وبلد، والقسم بها: مسلكهم المعروف في سائر أقسام القرآن، فعدُّوا للأولين منافع غذائية وطيبة، وآيات الله فيهما، وللآخرين فضائل ومناقب.

فالله أقسم بهذه الأشياء من باب الاستشهاد بنعمه على عباده، ثم بعد ذلك ذكر منبتهما وأرضهما التي يكثران فيها، وهي أرض الشام وهي مهد النبوة والأنبياء ومنبتهم، ومهبط الوحي والملائكة، ومنهم عيسى ابن مريم عليهما السلام.

وقد عدل كثير من أئمة التفسير ومراجعة من كونهما من المأكول إلى كونهما من المواضع والأمكنة، قال الضحاك: التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس، وقال قتادة: التين الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس، وقال محمد بن كعب : التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيليا.

أمّا كونهما من المواضع فقد دلّ عليه السياق لأنّه تعالى قرن التين والزيتون بطور سينين والبلد والأمين، فدل النظم على كونهما اسمين لموضعين، أمّا كون المراد المنبت، فالعرب يسمون الموضع باسم ما ينبت فيه كثيراً، كالغضا والشجر والنخلة، وليس ذلك خروجاً عن أصل المعنى، وإنّما هو استعمالها في بعض وجوهها بطريق تسمية الظرف.

فالطور هو الجبل الذي نال عليه إنسان- وهو موسى عليه السلام – النبوة، وتشرف بكلام الله سبحانه وشهد تجليات الله، والبلد الأمين مكة، التي تشرف فيها إنسان آخر- وهو الآخر- بالرسالة والنبوة.

(لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِیۤ أَحۡسَنِ تَقۡوِیمࣲ) قال الراغب: تقويم شيء وتثقيفه ، وذلك إشارة إلى ما خُصّ به الإنسان من بين الحيوان من العقل والفهم وانتصاب القامة على استيلائة على كل ما في هذا العالم.

(ثُمَّ رَدَدۡنَـٰهُ أَسۡفَلَ سَـٰفِلِینَ) أي: صيرناه أسفل من كل سافل، وأسفل إمّا أن يكون ظرفاً أو مفعولاً به، أو حالاً، فهذا الجنس الذي كان منه محمد وموسى وعيسى والنبيون والصديقون والشهداء والصالحون: انحط بعض أفراده بأعمالهم حتى صاروا أرذل من الحيوانات والعجماوات والحشرات والجمادات، فكان منهم من ادعى الألوهية كفرعون، ومنهم من قلب الفطرة، ومنهم من مسخ الإنسانية، ومنهم من اخترع الجرائم وابتدع من المآثم ما لا يخطر على قلب بهيمة وسبع، ولا يزال منهم من يبتكر الآت الدمار والهلاك.

فالإنسان إذا انحرف عن فطرته وانحط من مقامه فمعاذ الله من شره، فلا تكون الحية والعقرب أشد إيذاءاً وخطراً منه، ثمّ استثنى الله – إنصافاً- منه الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أي: حافظوا على ما رزقهم الله من فطرة طاهرة زكية وزكوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح (فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَیۡرُ مَمۡنُونࣲ) غير مقطوع.

الخلاصة

﴿فَمَا یُكَذِّبُكَ بَعۡدُ بِٱلدِّینِ﴾ أي: ما يحملك على التكذيب بالجزاء مع أنّك شاهدت مظاهره في هذه الحياة، فرأيت الإنسان كيف يبلغ منزلة لا يبلغها الملائكة، ثمّ كيف ينحط بأعماله حتى يصير في أسفل سافلين.

(أَلَیۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَـٰكِمِینَ) في معاملته مع الإنسان حسب أعماله وإيتاء كل ذي حقٍ حقّه، من الدرجات العليا، أو الدركات السفلى.


شارك المقالة: