تفسير الآية:
﴿لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإࣲ فِی مَسۡكَنِهِمۡ ءَایَةࣱۖ جَنَّتَانِ عَن یَمِینࣲ وَشِمَالࣲۖ كُلُوا۟ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُوا۟ لَهُۥۚ بَلۡدَةࣱ طَیِّبَةࣱ وَرَبٌّ غَفُورࣱ فَأَعۡرَضُوا۟ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ سَیۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَـٰهُم بِجَنَّتَیۡهِمۡ جَنَّتَیۡنِ ذَوَاتَیۡ أُكُلٍ خَمۡطࣲ وَأَثۡلࣲ وَشَیۡءࣲ مِّن سِدۡرࣲ قَلِیلࣲ (١٦) ذَ ٰلِكَ جَزَیۡنَـٰهُم بِمَا كَفَرُوا۟ۖ وَهَلۡ نُجَـٰزِیۤ إِلَّا ٱلۡكَفُورَ (١٧).
قال بعض العلماء عن سياق القرآن لهذه القصة : “قد استوعبت تاريخ أمةٍ في سطور، وصورت لنا أطوارًا اجتماعيةً كاملةً في جملٍ قليلةٍ أبدع تصوير، ووصفت لنا بعض خصائص الحضارة، والبداوة في جمل جامعة لا أظن غير اللسان العربي يتسع لحملها: ( قُرࣰى ظَـٰهِرَةࣰ) وكقوله: (وَقَدَّرۡنَا فِیهَا ٱلسَّیۡرَۖ) وكقوله: (بَـٰعِدۡ بَیۡنَ أَسۡفَارِنَا) حتى إذا وصل القارئ إلى مصير الأمّة التي سمع ما هاله من وصفها، واجهه قوله تعالى: (فَجَعَلۡنَـٰهُمۡ أَحَادِیثَ) وأدركه الغرق في لجج البلاغه الزاخرة.
أيها المؤمنون :
إنّ مملكة سبأ نموذج يحكي كل بلد ينعم الله عليها، وتجبي إليه ثمرات كل شئ، بل بلغ بهم الحال إنّ أحدهم لا يحتاج إذا أراد السفر أن يتزود فالخيرات في طريقه، وعن يمينه وعن شماله يقطف منها ما يشاء، وامتن الله عليهم بذلك فقال: (لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإࣲ فِی مَسۡكَنِهِمۡ ءَایَةࣱۖ) والآيه هنا: ما أدر الله عليهم من النعم وصرف عنهم من النقم الذي يقتضي ذلك منهم أن يعبدوا الله ويشكروه. ثم فسّر الله الآيه بقوله: ( جَنَّتَانِ عَن یَمِینࣲ وَشِمَالࣲۖ) وكان لهم واد عظيم تأتيه سيول كثيرة، وكانوا بنوا سدًا محكمًا يكون مجمعًا للماء فكانت السيول تأتيه، فيجتمع هناك ماء عظيم، فيفرقونه على بساتينهم التي عن يمين ذلك الوادي وشماله، وتغل لهم تلك الجنتان العظيمتان من الثمار ما يكفيهم، ويحصل لهم به الغبطه والسرور فأمرهم الله بشكر نعمه التي قدرها عليهم من وجوه كثيره:
منها: هاتان الجنتان اللتان غالب أقواتهم منهما.
ومنها: أنّ الله جعل بلدهم بلدة طيبة لحسن هوائها، وحصول الرزق والرغد فيها.
ومنها أنّ الله تعالى وعدهم -إن شكروه- أن يغفر لهم ويرحمهم ولهذا قال: (بَلۡدَةࣱ طَیِّبَةࣱ وَرَبٌّ غَفُورࣱ).
ومنها: أنّ الله لمّا علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم إلى الأرض المباركة، هيّأ لهم الأسباب ما يتيسر وصولهم إليها، بغاية السهولة.
فأعرضوا عن المُنعم، وعن عبادتهنّ وبطروا النعمة، وملّوها، حتى إنّهم طلبوا وتمنوا أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى، التي كان السير فيها متيسراً، قال تعالى (وَظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ) بكفرهم بالله وبنعمته، فعاقبهم الله بهذه النعمة.
فلمّا أصابهم ما أصابهم، تفرقوا وتمزقوا، بعد ما كانوا مجتمعين، وجعلهم الله يُتحدث بهم (إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُور) صبّار على المكاره والشدائد.
والدرس المستفاد: أنّ مملكة سبأ سقطت في الامتحان عندما استهانت بنعمة الله تعالى وكفرتها.