من مفاهيم العدل في القرآن :
العدل أخو الاعتدال، فيرى الحسنات ويرى السيئات، ويحكم للأغلب منهما، ومن الناسِ من يظلم الفُضلاء، وينتقص من مقامهم؛ لأخطاءٍ وَجدَها عندهم، وهو مرتاح الضمير في انتقاصه لهم؛ اعتماداً على هذه الأخطاء التي تحقق من وجودها، ويقع هذا كثيراً من المتجرئين على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتجد البعض من يتعب نفسه في البحث والتنقيب في بطون الكتب؛ حتى يتحقق من بعض الأخطاء، فإذا تحقق من وجودها سمح لنفسه أمن ينتقصهم ويزدريهم، وما هذا سبيل العدل؛ فإن العدلَ لا ينظر بعينٍ واحدةٍ، ولا يكتفي ببعض الأخطاء في إسقاط الفضل والعدالة، بل يرى الحسنة والسيئة، ويُدرك ما يعتري العمل من ملابسات وعوارض، ويَحكم للأغلب منهما.
وقد قال الله عن خيرة خلقهِ، الداخلين في رضوانه وجنته، قال تعالى: ﴿أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ نَتَقَبَّلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُوا۟ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَیِّـَٔاتِهِمۡ فِیۤ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَعۡدَ ٱلصِّدۡقِ ٱلَّذِی كَانُوا۟ یُوعَدُونَ﴾ صدق الله العظيم [الأحقاف ١٦] فهؤلاء لهم سيئات بصريح الآية ولم تَحُل هذه السيئات بينهم وبين الجنة والرضوان؛ حيث غلب فضلهم، ورجحت حسناتهم، وأولى من يدخل في هذه الآية هم أصحاب رسول الله عليه وسلم الذين آمنوا به وعزَّروه – أي عظموه ووقروه – ونصروه وأولئك هم المُفلحون.
إن الاصطفاء والاختيار الربّاني لا يلزم منه السلامة والكمال، كما هو الحال في بني إسرائيل، وقد قال الله عنهم: ﴿وَلَقَدِ ٱخۡتَرۡنَـٰهُمۡ عَلَىٰ عِلۡمٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ صدق الله العظيم [الدخان ٣٢]وقال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَفَضَّلۡنَـٰهُمۡ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ صدق الله العظيم[الجاثية ١٦].
والعدل يقتضي التمييز بين الفاضلِ والمفضول، قال تعالى: ﴿ لَا یَسۡتَوِی مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَـٰتَلَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةࣰ مِّنَ ٱلَّذِینَ أَنفَقُوا۟ مِنۢ بَعۡدُ وَقَـٰتَلُوا۟ وَكُلࣰّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ﴾ صدق الله العظيم[الحديد ١٠]، وهذا السبق والفضل لبعضهم لا يسمح لنا أن نقدح في بقيتهم، كما قال تعالى: ﴿ وَكُلࣰّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَـٰهِدِینَ عَلَى ٱلۡقَـٰعِدِینَ أَجۡرًا عَظِیمࣰا﴾ صدق الله العظيم [النساء ٩٥] فالعدل الذي يميز الفاضل هو الذي يمنع من الإساءة للمفضول.
وممّا يدل على أهمية العدل والاعتدال، ما هو مقرر من تفاضل رسُل الله، فقد فضَّل يعضهم على بعض، كما قال عنهم: ﴿۞ تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۘ ﴾ صدق الله العظيم [البقرة ٢٥٣] وهذا التفاضل بينهم لا يُجيز عدم الإيمان ببعضهم، قال الله عنهم: ﴿ ٰوَمَاۤ أُوتِیَ ٱلنَّبِیُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ﴾ صدق الله العظيم[البقرة ١٣٦]ومع العدل الموجب للتفضيل، يأتي الاعتدال الموجب للأدب مع الفاضل والمفضول.
فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه استبَّ رجلانِ رجلٌ من اليهودِ ورجلٌ من المسلمِين . فقال المسلم : والذي اصطفى محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على العالَمِين ! وقال اليهوديُّ : والذي اصطفى موسى عليه السلامُ على العالمِين ! قال فرفع المسلمُ يده عند ذلك . فلطم وجهَ اليهوديِّ . فذهب اليهوديُّ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخبره بما كان من أمره وأمرِ المسلمِ . فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ” لا تُخيِّروني على موسى . فإنَّ الناسَ يُصعَقون فأكون أولَ من يُفيقُ . فإذا موسى باطشٌ بجانبِ العرشِ . فلا أدري أكان فيمن صُعِقَ فأفاق قَبلي أم كان ممّن استثنى اللهُ ” . وفي روايةٍ : استبَّ رجلٌ من المسلمين ورجل من اليهود، وقد ذكر العلماء أن التفضيل على وجه الحميّة والعصبية منهيٌ عنه، فإنّه مُشعر بتنقُّص المفضول، فالعدل الواجب، ولا يُستغنى العدل عن الاعتدال والأدب.
والعدل فوق مشاعر الحب والكراهية، ويتساوى الناس في حب العدل والمطالبة به يحتاجون إليه، ثم يفترقون حين يكون العدل مخالفاً لمصالحهم وأهوائهم، قال تعالى: ﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِینَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَاۤءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَۚ إِن یَكُنۡ غَنِیًّا أَوۡ فَقِیرࣰا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلۡهَوَىٰۤ أَن تَعۡدِلُوا۟ۚ وَإِن تَلۡوُۥۤا۟ أَوۡ تُعۡرِضُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣰا﴾ صدق الله العظيم [النساء ١٣٥] فالتحدي الأكبر حين يتواجه العدلُ مع الهوى وجهاً لوجه، ولذلك جاء التحذير واضحاً في القرآن من تأثير الهوى على إقامة العدل، وذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰۤ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟ۚ ٱعۡدِلُوا۟ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ صدق الله العظيم[المائدة ٨]قال علماء التفسير: أي: أي لا يحملنكم بغض قوم على أن لا تعدلوا.
نسأل الله الهداية والتوفيق.