اقرأ في هذا المقال
جبهة الأندلس في عهد هشام بن عبد الملك:
أصبح الوضع لازماً عند المسلمين في الأندلس بأن يقوموا بالدفاع عن أنفسهم وبلادهم؛ وذلك بسبب ضعف الحكومة المركزية في دمشق، وبعد المسافة بينهما، بالإضافة لانهماك حكام شمالي أفريقيا في حل المشكلات وشؤونهم الداخلية، وكانت بدايات المرحلة الأولى من تاريخ إسبانيا كولاية مرتبطة إدارياً بالحكم المركزي في مدينة دمشق، واقترنت بالعديد من المحاولات التوسعية من وراء جبال البرنييه حيث بلاد غالة والفرنجة.
وتمثلت محاولات السمح بن مالك الخولاني للاندفاع نحو برينييه منذ عام 100هـ بداية جدية الحركة التوسعية، فعل على اجتياح مقاطعة سبتمانيا بما فيها ناربون المدينة الساحلية وقام بالاستيلاء عليها، ثم قامت قواته بالتوغل في إقليم أكيتانيا ووصلت إلى تولوز، وقامت بالإغارة ععلى مقاطعة البروفانس، وتلاقت قواته مع أودو حاكم أكيتانيا ودارت بينهم معركة انتصر فيها أودو، وكان السمح من بين القتلى.
قام عبد الرحمن الغافقي بقيادة الجيش بعد وفاة السمح، وقاد عملية الانسحاب والتراجع إلى ناربون بنجاح، وتعتبر محاولة عنبسة بن سحيم الكلبي من أوسع المحاولات الإسلامية لغزو بلاد غالة، فقام بمهاجمة إقليم سبتمانيا وفتح قرقشونة ونيم وأوتون، كما هاجم إقليم البروفانس وبرجنديا فوصل إلى نهر الرون، واجتاح العديد من المدن ومن أهمها: ليون وماسون وشالون وسانس التي لا تبعد أكثر من مائة ميل عن باريس.
ولكن عند عودة عنبسة بن سحيم قطع جيشاً من الفرنجة عليه طريق الرجعة، وأحاط بقواته وانتصر عليها، ووقع عنبسة شهيداً في هذه المعركة وكان ذلك في عام 107هـ، وأدَّى مقتله لتقهقر المسلمين مرةً أخرى، وتوقفت تيارات التوسع لمدة خمسة سنوات حتى عام 112هـ عندما استلم عبد الرحمن الغافقي زمام الأمور.
عبد الرحمن الغافقي وقيادته للفتوحات في جبهة الأندلس:
ويعتبر عبد الرحمن الغافقي من ألمع وأمهر القادة المسلمين، وبالإضافة إلى أنه يتمتع بمواهب عسكرية كبيرة، فضلاً عن مقدرته كحاكم ونظرته متساوية إلى المسلمين بين العرب والبربر، وإنصافه المسيحين في الأندلس، وهذا ما جعله أملاً للقيادات والفئات الأندلسية في تحقيق الاستقرار الداخلي والتوسع في الخارج.
بعد أن قام عبد الرحمن بتوطيد النظام في كافة أرجاء البلاد، وتحصين الثغور الشمالية، تطلَّع للخارج ظهر كقائد محترف استأثرت به النزعة لفتح وراء جبال برينييه، والواقع أن حملته التي قام بها بعبور الجبال كانت نموذجاً مختلفاً عن الحملات السابقة في الإعداد النفسي والتجيز المادي والبعد الاستراتيجي لسياسة الفتح.
وكان الهدف الأول لعبد الرحمن الغافقي هو القضاء على الدوق أودو الذي يشكل العقبة الرئيسية أمام التمدد الإسلامي في بلاد الفرنجة، وخاصةً بعد أن تحالف مع شارل بن ببين وهو حاجب القصر في مملكة الفرنجة، فالتقى بهم في معركة على نهر الدردوني وتغلب عليه، فلجأ أودو إلى بلاد الفرنجة وتعاون مع شارل للحرب ضد المسلمين، ونتج عن هذه الحرب أن انتشر المسلمون في مقاطعة أكيتانيا وتقدموا حتى مدينة تور.
وكان ما حدث هو آخر امتداد منظم لهم في أوروبا؛ لأن شارل خشي أن يدخل المسلمون إلى بلاد الفرنجة بسبب قربهم من حدودها، ولذلك عمل على الدفاع عن القارة الأوروبية تجاه زحف المسلمين، وكان عبد الرحمن حينها يعاني من صعوبات في التموين، ونقص في العديد بفعل ابتعاده عن قواعده، كما أنه كان يعاني من عدم تجانس جيشه وتحكم العصبيات القبلية فيه.
أما في الفرنجة كان جيشها يفوق جيش المسلمين في العدد والتنظيم والتماسك والتصميم، وتعمد شارل أن ينفذ استراتيجية عسكرية قائمة على تأخير اللقاء مع المسلمين؛ حتى يقوم بإنهاكهم بعد أن قاموا بالعديد من المعارك المتتالية، وكانوا منشغلين بالغنائم التي كانت تبطئ تقدمهم، وقام بإخفاء قواه عن أعين المسلمين، وبالفعل لم يستطع الغافقي معرفة أي شيء عن هذه الاستراتيجية، ويكون شارل هكذا قد حدد الزمان والمكان.
وحدث اللقاء الحاسم بين الطرفين في شهر تشرين من عام 114هـ في مكان معروف باسم بلاط الشهداء في السهل الواقع بين تور وبواتييه، ودارت بينهما معركة عنيفة كانت نتيجتها أن انتصر شارل على الرغم من بسالة المسلمين، واستشهد عبد الرحمن الغافقي بسبب سهم أصابه بعد أن قاتل بكل شجاعة وبطولة، فتفرقت بعده كلمة المسلمين واختلف رؤوساء الجند واضطروا للانسحاب إلى سبتمانيا.
وسميت هذه الموقعة باسم معركة بلاط الشهداء لكثرة من استشهد من المسلمين فيها، ونسبةً أيضاً لطريق روماني قديم حصلت عنده هذه المعركة، وتعتبر هذه المعركة من المعارك الحاسمة في التاريخ؛ لأنها أوقفت المد الإسلامي باتجاه قلب أوروبا، وتبددت مخاوف الأوروبيين، واستحق شارل عن جدارة لقب المطرقة، وصار يعرف بشارل مارتل.
لم يتعقب شارل فلول المسلمين؛ لأنه خشي أن يكون هروبهم تكتيكياً ويوقعوا به، وبالإضافة إلى أنه منّي بخسائر فادحة جعلته عاجزاً عن تنظيم عملية أي مطاردة وتراجع باتجاه الشمال، ولم يحاول المسلمون بعد هذه الحادثة أن يستولوا على الفرنجة؛ لأن خسارتهم جعلتهم أقل جرأة.