أهمية دراسة النظرية الاجتماعية في علم الاجتماع:
إن العلم يتكون من جانبين أساسين هما الجانب الحسي والجانب العقلي، وأن الصورة النموذجية ﻷي علم هي تلك التي لا تنفصل فيها النظرية بمعنى أن تضم النظرية كل الوقائع التي تم اكتشافها، وتربط بينها وتضفي عليها معنى وتخرج منها بمجموعة من التعميمات العامة المترابطة، وفي هذه الحالة تصبح النظرية موجهاً للباحثين عند جمعهم لوقائع جديدة تسهم في إثراء النظرية وتطويرها.
وأي باحث في أي علم من العلوم لا غنى له عن نظرية توجهه في جمعه للوقائع المتعلقة بالظاهرة التي يريد دراستها، وفي اختياره للفروض التي يد أن يختبر صدقها، وفي انتقائه للمنهج وللأدوات التي سيستخدمها في دراسته، فبدون هذه النظرية يتخبط في جمع معلوماته بحيث تأتي غير متصلة ثم يعجز في النهاية عن إضفاء معنى عليها أو تفسيرها.
إن الهدف الرئيسي لطلاب علم الاجتماع من دراستهم للنظريات الاجتماعية، هو فهم المجتمع الذي يعيشون فيه ومحاولة الإسهام في تطوير الحياة الاجتماعية فيه، وهم يدركون أن معرفتهم للمجتمع لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الدراسة الحقيقية لجوانب الحياة الاجتماعية، والتعرف عليها، ولكن المجتمع الذي نعيش فيه ونريد أن نفهمه يضم عدداً لا نهاية له من الوقائع الاجتماعية، وكل منها يمكن أن يكون موضوعاً للدراسة، ومن الأمثلة عادات الناس في مختلف الأحياء، والقرى المتعلقة بالتعامل الاجتماعي في كافة صوره، مثل أسلوب التحية بين فئات الناس.
لكي نستطيع حتى أن نختار أيا من هذه الموضوعات لا بدّ أن يوجد لدينا تصور عام عن المجتمع الذي نوجد فيه، أي لا بدّ أن يكون في ذهننا هدف ما لهذه الدراسة، كما أنه لا بدّ أن تكون لدينا طريقة ما لدراسة ما نختاره من موضوعات، وفوق هذا كله لا بدّ أن نكون على علم بجهود من سبقونا إلى التفكير في ذلك، وما توصلوا إليه من نتائج، وما وقعوا فيه من أخطاء حتى نستطيع تجنبها، أي أننا لا نستطيع أن نبدأ أبداً من نقطة الصفر، وإلا فإننا لن نضيف له جديداً أبداً.
والعلم بصفة عامة ذو طبيعة تراكمية، بمعنى أن كل دارس يضيف له شيئاً جديداً اعتماداً على معرفته بما توصل إليه من سبقوه، وهذه المعرفة توجد دائماً في الكتب ليس على شكل حشد هائل من المعلومات المتفرقة، ولكن على شكل استنتاجات عامة ونظريات، وأي باحث جاد لا بدّ أن يبدأ أولاً بقراءة هذه المعرفة المتوفرة، وإلا فإنه سيتخبط في بحثه ويجمع معلومات ليكتشف بعد ذلك أن غيره قد توصل إلى جمعها أو أنها عديمة القيمة، كما أنه قد يصل إلى استنتاجات يتضح له أنه قد ثبت خطؤها من زمن بعيد، ﻷن الأسلوب المتبع في دراستها كان خاطئاً.
مثال ذلك أنه لو حاول بعضكم منكم أن يدرس مشكلة مثل الجريمة دون أن يقرأ شيئاً من النظريات عنها وعن المجتمع فإنه قد يكون معرضاً لخطر أن ينصرف جهده لجمع معلومات عن آباء وجدود أو شجرة عائلة المجرمين على فرض أن هذا السلوك وراثي، وبعد فترة طويلة يكتشف أنه من زمن بعيد درس باحثون كثيرون هذا الفرض وصاغوا نظرية حوله مثل نظرية لومبروزو.
ثم أتى بعدهم باحثون آخرون أثبتوا أن المنهج الذي اتبعوه في هذه الدراسة كان خاطئاً من الناحية العلمية وأعادوا الدراسة من مرة أخرى بمنهج جديد أثبت بما لا يدع مجالاً للشك خطأ هذه النظرية تماماً، وبالتالي لم تعد ما سميت بالنظرية البيولوجية في تفسير السلوك الإجرامي تعتبر نظرية علمية، وكذلك ثبت خطأ النظرية الاجتماعية التي كانت تستند عليها، وهي الدارونية الاجتماعية أو النظرية البيولوجية أو العضوية في تفسير المجتمع.
ومن هنا تأتي أهمية دراسة كل من هذه النظريات ومناقشتها، وسوف تظل هذه الدراسة والمناقشة مستمرة حتى يتم جمع الأدلة الكافية على خطأ أو صواب كل منها أو على الأقل ما يحتويه كل منها من عناصر صحيحة، بحيث يتم في النهاية الوصول إلى نظرية اجتماعية عامة واحدة قابلة للإضافة إليها وإثرائها بكيفية تراكمية، مثلما هو الحال بالنسبة للنظرية البيولوجية أو الفيزيائية.
إننا ندعو دائماً إلى استيعاب كل النظريات الاجتماعية بدون استثناء وإلى إعمال العقل فيها ومناقشتها ونقدها، فيجب أن نتمتع دائماً بالقدرة على التفتح الفكري على جميع الاتجاهات، وليس هناك ما هو أخطر على علمنا وعلى مجتمعنا من الانغلاق على فكر واحد، ومن أن نصبح أسرى قوالب جامدة ومن إلزام أبنائنا باستظهار آراء تفرضها عليهم ونعطل بها ملكة التفكير والنقد عندهم.