التطور النظري لعلم الجريمة

اقرأ في هذا المقال


لا تعني دراسة علم الإجرام دراسة القانون والجريمة فقط بل بدلاً من ذلك ينظر إلى الجريمة من منظور شامل، مع الأخذ في الاعتبار تأثيرها على الضحية والجاني والمجتمع ككل، فبصفة الفرد متخصصًا أو مهتمًا في علم الإجرام لن يركز فقط على الجريمة، ولكن أيضًا على الأشخاص المتضررين وسيطور المهارات اللازمة لمساعدتهم.

علم الإجرام كمجال دراسي مسمى

شهد القرن التاسع عشر ظهور العلم ونموه وإنشاء تخصصات ومجالات بحث منفصلة، وقبل هذا الوقت تم تضمين جميع العلوم في كليات الفلسفة، وفي أوائل القرن التاسع عشر تم تسمية علم الاجتماع وبدأت الكتب المدرسية في الظهور، وفي عام 1905 تم تشكيل الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع، وظهرت المنظمات الوطنية التي تروج للطب في عام 1847 والتاريخ في عام 1884 والكيمياء في عام 1875 والفيزياء في عام 1899 وعلم النفس في عام 1892 والاقتصاد في عام 1885، وفي الجزء الأخير من القرن التاسع عشر حيث أصبحت هذه العلوم الجديدة جزءًا من الجامعات والخطاب العام.

كان لعلم الإجرام فترة أطول من التكوين، ففي عام 1885 نشر رافاييل جاروفالو (Raffaele Garofalo) وهو طالب لدى لومبروسو علم الجريمة، حيث استخدم كلمة علم الجريمة للإشارة إلى كتابه علم شرح الجريمة في الأعوام من 1885 – 1968، وأسست سلسلة من الكتب المكتوبة في أواخر القرن التاسع عشر علم الإجرام كمجال للدراسة، ولكن على عكس العلوم الاجتماعية الأخرى لم ينعكس هذا في هيكل التخصصات في الجامعات، كما لم تظهر المنظمات الوطنية أو الدولية للترويج لهذا المجال من العلوم الاجتماعية.

لن تظهر هذه العلامات لعلم جديد للجريمة والعدالة إلّا في الأربعينيات من القرن الماضي، حيث تأسست الجمعية الأمريكية لعلم الجريمة كجمعية لأساتذة الشرطة في عام 1941، وافتتحت أول مدرسة أمريكية لعلم الجريمة في عام 1950 في جامعة كاليفورني في بيركلي.

تطور النظريات الإجرامية للجريمة

لما يقرب من قرنين من الزمان بعد عمل بيكاريا في الأعوام من 1764 – 1963 لم يولي علماء الجريمة اهتمامًا ثابتًا ومنظمًا لنظام العدالة الجنائية، بل بدلاً من ذلك كان تقليد علم الإجرام الذي بدأه لومبروسو – البحث عن أسباب الجريمة – هو محور علم الإجرام حتى النصف الأخير من القرن العشرين، ومرت هذه الفترة من البحث عن أسباب الجريمة من خلال أربع مراحل متميزة من التطور النظري:

1- الاختزال أحادي العامل.

2- الاختزال النظامي.

3- النظريات متعددة التخصصات.

4- مناهج متعددة التخصصات.

اليوم تقف النظرية متعددة التخصصات كنموذج مهيمن لشرح الجريمة (والسلوكيات البشرية الأخرى)، ويرتكز علم الجريمة اليوم على أساسين هما:

1- التفسير متعدد التخصصات للجريمة.

2- تحليل عدالة وفعالية نظام العدالة الجنائية.

كل من هذه الجوانب الأساسية لعلم الإجرام تم الإبلاغ عنها، بواسطة كما دعا بيكاريا في الأعوام من 1764 – 1963 ولومبروسو في عام 1876 وساذرلاند في عام 1939 من خلال تطبيق الأساليب العلمية.

الاختزال أحادي العامل

في صياغته الأولية جادل لومبروسو في عام 1876 بأنّ كل الجرائم يمكن تفسيرها بعامل واحد وهو: فشل التطور، ولا حاجة إلى متغير أو بُعد آخر لفهم نطاق الجرائم و / أو أنواع المجرمين، وكانت النظرية شديدة البخل، حيث هذا العامل الوحيد يمكن أن يفسر الجريمة، وسرعان ما بدأ الآخرون في تحديد تفسيرات أخرى ذات عامل واحد للجريمة وهو: المرض العقلي أو كما كان يسمى آنذاك ضعف العقل (Dugdale) في عام 1877- والعائلات السيئة وفقدان الإيمان أو الدين، وتم تقديم تفسيرات أخرى لا كأجزاء من تفسير شامل ولكن كتفسير للجريمة، ومع اختزال جميع التأثيرات إلى هذا العامل الواحد.

سرعان ما انهار هذا النهج عندما بدأت دراسة الأشخاص الذين ارتكبوا الجريمة في تحديد مجموعة واسعة من الخصائص التي بدت تميز المجرمين عن غير المجرمين، وأدى ذلك إلى النهجين التاليين لتطوير نظريات السلوك الإجرامي وهما: الاختزال النظامي والمناهج متعددة التخصصات، على الرغم من حدوثها في وقت واحد إلّا أنّ التأثير الأكبر كان من خلال الاختزال النظامي لأسباب تمت مناقشتها الآن.

الاختزال النظامي

كانت هناك فترة تزيد عن 50 عامًا بين الوقت الذي ظهر فيه علم الإجرام كمجال للدراسة وعندما تم إضفاء الطابع المؤسسي عليه في الجامعات ومع المنظمات المهنية الخاصة به، وخلال هذه الفترة في الولايات المتحدة تم احتواء علم الإجرام في جميع الحالات تقريبًا في أقسام علم الاجتماع، وعلى هذا النحو خلال هذه الفترة كان تفسير السببية للجريمة مقيدًا بنظام المعرفة الاجتماعي.

توسعت الاختزالية المنهجية -أي شرح ظاهرة من نظام معرفة فردي أو منظور تخصص- إلى ما وراء علم الاجتماع، ولكن المنظور الاجتماعي هو الذي سيطر على النظرية الإجرامية لسنوات عديدة وحتى اليوم هو المنظور النظري السائد، ويمكن رؤية أهمية الاختزال المنهجي في العديد من كتب علم الجريمة التي تنظم مناقشة أسباب الجريمة في سلسلة من الأقسام -تفسيرات اجتماعية وتفسيرات نفسية وتفسيرات بيولوجية- حيث يتم تقديم كل منها كما لو كانت أنظمة المعرفة هذه غير مرتبطة ببعضها البعض وكل منها توفير طرق متنافسة لشرح الجريمة.

لماذا حدث هذا الالتقاط لدراسة الجريمة بواسطة علم الاجتماع والذي أدرك جميع المفكرين الأوائل أنّه يحتوي على العديد من التفسيرات؟ فعلى الأرجح حدث ذلك بسبب الطريقة التي تطور بها علم الاجتماع في جامعة شيكاغو مسقط رأس علم الاجتماع الأمريكي، فهنا كان علم الاجتماع (مدرسة شيكاغو) هو دراسة التنمية الحضرية والمشاكل المرتبطة بهذا التطور.

كان من المنطقي تحديد موقع دراسة الجريمة في مثل هذا المجال من الدراسة وبمجرد تحديد موقعها فليس من المستغرب أن تكون النظريات التي هيمنت على علم الإجرام ذات طبيعة اجتماعية، وتم التقليل إلى حد كبير من بيولوجيا وعلم النفس للجريمة، وبدلاً من ذلك كان يُنظر إلى الجريمة على أنّها وظيفة من وظائف المجتمع والأسرة والمدرسة والمؤسسات الاجتماعية الأخرى، وأصبح تفسير الجريمة هو تفسير الاختلافات في معدل الجريمة داخل المدينة عبر المستويات الطبقية وبين المهاجرين الجدد والمهاجرين الأقل حداثة.

تم العثور على المجرمين بشكل غير متناسب في الفقر وفي المنازل والصداقات التي اعتبرت السلوك الإجرامي بمثابة استجابة معقولة لموقعهم الاجتماعي، كما لاحظ دينيس رونغ (Dennis Wrong) في عام 1961 قرب نهاية هذه الفترة من النظرية في علم الإجرام، فإنّ الاختزال النظامي الاجتماعي قدم مفهومًا اجتماعيًا للسلوك البشري تجاهل إلى حد كبير الشخصية والبيولوجيا.

هذا لا يعني أنّ هذه الفترة لم تسهم في فهم الجريمة، فقد قدم التركيز على التباين في معدلات الجريمة قضايا ذات أهمية حاسمة لفهم الجريمة، وتطور نظريات مثل الارتباط التفاضلي ساذرلاند (Sutherland) في عام 1934 والذي قدم شرحًا للتعلم الاجتماعي)، وتطور النظريات مثل الارتباط التفاضلي لساذرلاند في عام 1934، والذي قدم شرحًا للتعلم الاجتماعي، وأنامي الشذوذ (anomie) لميرتون في عام 1938 الذي أوضح تركيزات الجريمة في الطبقة الدنيا نتيجة لظروف ثقافية، والصراع الثقافي لسيلين في عام 1934 الذي اقترح أنّ الجريمة تتجمع في مجموعات تمر بمرحلة انتقالية من ثقافة إلى أخرى.

كذلك الفوضى الاجتماعية لشو ومكاي (Shaw & McKay) في عام  1942، والتي فسرت الجريمة في المناطق الفقيرة نتيجة للغياب النسبي لضوابط الأسرة والمجتمع على السلوك، والتسمية لشور (Schur) في عام 1971 التي جادلت من أجل التأثير الإجرامي لتسمية الناس كمجرمين، وأثبتت أنّها ذات قيمة في تطوير نظريات أكثر شمولاً للجريمة والتدخلات النظرية للجريمة، وكل هذه الأساليب لا تزال قائمة اليوم في أشكال معدلة قليلاً فقط أو كأجزاء من تفسيرات أكثر تعقيدًا.

العنصر الأساسي في الاختزال النظامي الاجتماعي هو أنّ الجريمة تتجمع في الطبقة الدنيا وبالتالي هناك شيء في هذا الوضع الاجتماعي يفسر ارتفاع معدلات الجريمة، ووفقًا للاختزال النظامي كان الجاني الفرد يعتبر انعكاسًا لوضعه الاجتماعي.


شارك المقالة: