النظريات البيولوجية الحديثة للجريمة

اقرأ في هذا المقال


تركز النظريات البيولوجية الحديثة للجريمة بشكل خاص على كيفية مسؤولية مناطق مختلفة من الدماغ عن الأفكار والعواطف والسلوكيات، وكيف يمكن أن يتسبب الخلل الوظيفي في هذه المناطق في الإجرام.

النظريات العصبية للجريمة

تنظر التفسيرات العصبية إلى بنية وعمل الجهاز العصبي المركزي، وهناك العديد من مناطق الدماغ التي ركز عليها علماء الجريمة وعلماء الأعصاب في الدراسات البيولوجية الحديثة للجريمة، وتشكل القشرة الدماغية الجزء الخارجي من الدماغ وتنقسم إلى نصفي الكرة الأيسر والأيمن، ويحتوي كل نصف كرة على أربعة فصوص.

ركز علماء الجريمة على الفص الجبهي في نظرياتهم البيولوجية للجريمة، لأنّ المنطقة تشارك في التفكير المجرد والتخطيط وتشكيل الهدف والحفاظ على الانتباه والتركيز والمراقبة الذاتية والتثبيط السلوكي، فقام العالم أدريان رين (Adrian Raine) وهو عالم نفس بريطاني في عام 1997 بأجراء دراسة عن 41 من القتلة العنيفين ووجدوا انخفاضًا في النشاط في قشرة الفص الجبهي والجهاز الحوفي لهؤلاء المجرمين مقارنة بالمراقبين غير المجرمين.

يُظهر الأفراد المصابون باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (السيكوباتية) انخفاضًا في الاستجابة العاطفية ونقصًا في التعاطف مع الآخرين، تم العثور على هذه الأعراض في العديد من المجرمين، ووجدت دراسات تصوير الدماغ انخفاضًا في نشاط قشرة الفص الجبهي للأفراد المصابين باضطراب المعالجة السمعية (APD – Auditory processing disorder)، بالإضافة إلى ذلك وجد رين في عام 2000 حجمًا منخفضًا للمادة الرمادية في هذه المنطقة في دماغ هؤلاء الأفراد.

يدرس علماء الأعصاب أيضًا كيف يمكن للمواد الكيميائية الموجودة في الدماغ والمعروفة بالناقلات العصبية أن تعمل للتأثير على الفكر والعاطفة والسلوك، فعلى سبيل المثال أظهرت بعض الدراسات أنّ المستويات المفرطة من الدوبامين قد تكون مرتبطة بالسلوكيات العدوانية والإجرامية، ويمكن أيضًا استخدام الأدوية المضادة للذهان التي تقلل الدوبامين لتقليل العدوانية.

وبالمثل وجد العلماء أنّ زيادة مستويات النورإبينفرين يمكن أن تؤدي إلى سلوك عدواني وانخفاض المستويات يمكن أن يؤدي إلى سلوك غير اجتماعي، وتشير هذه النتائج إلى أنّ كلا من المستويات العالية والمنخفضة من النوربينفرين يمكن أن تؤدي إلى مشاكل سلوكية، وناقل عصبي آخر مهم للنظريات البيولوجية للجريمة هو السيروتونين وهو ناقل عصبي مثبط يستخدم في جميع أنحاء الدماغ بما في ذلك الجهاز الحوفي والقشرة الأمامية، ولقد قرر الباحثون أنّ انخفاض مستويات السيروتونين يرتبط بالسلوك الإجرامي وأنّ الناقل العصبي يدير الاندفاع.

التفسيرات الجينية

تشير التفسيرات الجينية للجريمة إلى أنّ العوامل الوراثية يمكن أن تهيئ الأفراد لارتكاب جرائم؛ لأنّ الجينات ترمز لعوامل فسيولوجية مثل بنية وعمل الجهاز العصبي والكيمياء العصبية، وكما هو الحال في النظريات البيولوجية المبكرة للجريمة استخدم علماء الجريمة دراسات الأسرة والتبني والتوائم في تقدير مدى توارث بعض السمات، وفي هذه الدراسات إذا كان سلوك الفرد أكثر تشابهًا مع سلوك أقاربه البيولوجيين من سلوكهم المتبنين فإنّ هذا يشير إلى أنّ السمة تتأثر وراثيًا أكثر من البيئات.

في إحدى هذه الدراسات التي أجروها كل من ميدنيك (Mednick) وغابرييللي (Gabrielli) وهاتشينجز (Hutchings) في عام 1984، حيث فحص علماء الجريمة 14،427 شخصًا بالتبني وعائلاتهم البيولوجية والتبني لتحديد التأثيرات الجينية والبيئية على السلوك الإجرامي، وأشارت نتائج الدراسة إلى أنّ 13.5٪ من المتبنين الذين لم يُدان أي من والديهم بالتبني أو الوالدين البيولوجيين بارتكاب جريمة، وأنّ 14.7٪ من الذين تم إدانة والديهم بالتبني فقط أصبحوا مدانين، وارتفعت هذه الأرقام عندما أُدين الوالدان البيولوجيان بارتكاب جريمة، وأنّ 20٪ من أولئك الذين أدين آباؤهم البيولوجيين أدينوا، و 25٪ من أولئك الذين أدين آباؤهم البيولوجيين والوالدين بالتبني.

تشير هذه النتائج إلى أنّ السمات التي تؤدي إلى الإجرام متوارثة إلى حد ما، ولكن أولئك الذين تربوا في بيئة يتعرضون فيها للسلوك الإجرامي هم أكثر عرضة للانخراط فيه بأنفسهم، وقد دعمت دراسات تبني الإجرام الأحدث هذه النتائج.

كما أجرى ري (Rhee) ووالدمان (Waldman) في عام 2002 مراجعة لدراسات التوائم والتبني ووجدوا أنّ هناك تأثيرات وراثية وبيئية كبيرة على السلوك المعادي للمجتمع، وعلى وجه التحديد وجد الباحثون أنّ حوالي 32٪ من التباين في السلوك المعادي للمجتمع يرجع إلى تأثيرات وراثية مضافة و 9٪ بسبب تأثيرات وراثية غير إضافية، و 16٪ بسبب التأثيرات البيئية التي يتقاسمها التوأم و 43٪ بسبب التأثيرات البيئية الفريدة لا. يتقاسمها التوأم، وبعد ري ووالدمان أجرى موفيت في عام 2005 مراجعة خلصت إلى أنّ حوالي 50 ٪ من تباين السكان في السلوك المعادي للمجتمع كان بسبب التأثير الجيني.

التفاعلات الجينية والبيئية

من المرجح أنّ يتصرف أولئك الذين لديهم جينات غير متشابهة بشكل مختلف في نفس البيئة، وأولئك الذين لديهم ميول وراثية تجاه الإجرام هم أكثر عرضة للانخراط في السلوكيات الإجرامية إذا تعرضوا لبيئات تفضي إلى الإجرام، وفي المقابل من غير المرجح أن ينخرط أولئك الذين ليس لديهم تصرفات جنائية في سلوك إجرامي حتى عندما يكونون في بيئة إجرامية، وقدم علماء مثل كاسبي وآخرون في عام 2002 دليلاً على كيفية تفاعل الجينات الإجرامية نفسها مع البيئة.

كشفت دراسة كاسبي وزملاؤه أنّ المتغيرات الجينية للجين الذي ينتج إنزيمًا يكسر الناقلات العصبية مثل السيروتونين والدوبامين لم يكن لها تأثير مباشر على السلوك بشكل طبيعي، ومع ذلك فإنّ الأولاد الذين تعرضوا لسوء المعاملة وهم أطفال وكذلك لديهم جين يرمز إلى انخفاض إنتاج الإنزيم كانوا أكثر عرضة لمشاكل السلوك المعادي للمجتمع من أولئك الذين ليس لديهم هذا الجين.

حدود النظريات البيولوجية الحديثة للجريمة

الدراسات الجينية البيولوجية محدودة لأنّها لا تستطيع تحديد العوامل الوراثية المحددة التي تؤدي إلى اختلافات سلوكية، ويمكن للعديد من الجينات أن تعطل التطور الطبيعي مما يؤدي إلى سلوك غير طبيعي، ولمعرفة الجينات التي يمكن أن تكون مرتبطة بالسلوك المعادي للمجتمع والإجرامي أجرى العلماء دراسات وراثية جزيئية، وقد اهتم علماء الجريمة بنوعين من الجينات وهم: الجينات التي تتحكم في الدوبامين وتلك التي تتحكم في السيروتونين، ويمكن أن تؤدي المستويات المتفاوتة من الدوبامين في الدماغ إلى مجموعة واسعة من السلوكيات، ويمكن أن تؤدي الاختلافات في الجينات التي تتحكم في الدوبامين إلى سلوك معاد للمجتمع خطير وعنيف.

هناك أيضًا عدد من الجينات التي ترمز لإنتاج واكتشاف وإزالة السيروتونين في الدماغ، وقد أشارت الأبحاث إلى أنّ المستويات المنخفضة من السيروتونين مرتبطة بزيادة السلوك المعادي للمجتمع، والنهج البيولوجي حساس اجتماعيًا لأنّه له عواقب على النظام القانوني والمجتمع ككل، وإذا كان المخالف وراثيًا فلا ينبغي اعتبار الأشخاص مسؤولين عن جرائمهم، ولكن هذا يترك قرارًا مهمًا يتعين اتخاذه بشأن ما يجب فعله مع هؤلاء المجرمين الخطرين، وبناءً على هذه النظرية يمكن أن تشمل تدابير منع الجريمة الاختبارات الجينية للجمهور، ولكن بمجرد أن يحمل الأفراد جينات مهيأة للجريمة ماذا نفعل بهؤلاء الأفراد؟

المصدر: رؤوف عبيد، أصول علمي الإجرام والعقاب (دار النهضة العربية، القاهرة 1985).إيناس محمد راضي (19-9-2015)، "الجريمة"، University of Babylon ، اطّلع عليه بتاريخ 27-4-2017. أ. د. محمد جبر الألفي (20-10-2016)، "ماهية الجريمة الجنائية"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 27-4-2017.سعد الراشد (27-1-2015)، "أسباب الجريمة وطرق مكافحتها"، الجماهير، اطّلع عليه بتاريخ 29-4-2017.


شارك المقالة: